الجمعة، 7 أكتوبر 2011

رحم الله امرءًا عرف حده فوقف عنده


بسم الله الرحمن الرحيم
رحم الله امرءًا عرف حده فوقف عنده....
جاء أبو ذر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه الإمارة، فردّه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ردّاً جميلاً، وشرح له ببلاغة وإيجاز سبب رده إياه... وبين له أنه ضعيف...مع أن الرسول صلى الله عليه وسلّم قال عن أبي ذر: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر...([1] )  
وهذا يعني أن الرد لم يكن بسبب قدح في إيمان أبي ذر ولا في أخلاقه... وأن ضعفه لم يكن في إيمان ولا صلاة ولا طاعة .. وإنما ضعيف فيما يرتبط بالإمارة ومستلزماتها.. من حسن سياسة، وصبر، وروية، وتفهم لطبائع الناس، فلكل طبعه، وطريقةٌ للتعامل معه...وغير ذلك..
ذكرت ما سبق لأبين أن كثيرًا من الناس، وهم أصحاب سبق وفضل في العمل والدعوة وغير ذلك، تراهم يتدخلون بفرض آرائهم في كل صغيرة وكبيرة من شؤون المجتمع، ظانين أنفسهم أنهم فارس القضية المجلّى وأميرها المعنّى، فيما ندبوا أنفسهم إليه...ففي مجال الزراعة تجدهم مهندسي الزراعة المهرة، وفي مجال الطب تجدهم منظرين لأدواء وعلل، وفي مجال الفقه تجدهم يتحدثون فيه وكأن أحدهم أبو حنيفة أو الشافعي، وفي مجال العلوم العسكرية والحروب ينبرون وكأنهم صلاح الدين أو رومل، وقل الشيء نفسه في مجال السياسة...
وليس مجال الحديث عن ذلك هو التدخل في النيات، فإننا نفترض أنهم حسنو النيات، لكن؛ فلنأخذ كمثال على ذلك المجال السياسي، فمن شروط السياسي أن يكون ملمًا كثيرًا بالعلوم السياسية، وأن يكون مرنًا مع تعامله مع الآخرين (شعرة معاوية)، وأن يقرأ الخبر، وما وراء الخبر، بأكثر من عين.. (عينه مثلاً وعيون المجتمع...)، وأن يختار الكلمات المناسبة مع محاوره بحيث لا توقعه في تناقض، أو تكون عليه مستمسكًا يُحرج به، وأن يكون بعيدًا- بقدر ما يستطيع- عن التأثر الذاتي الشخصي العاطفي حين يتعامل مع الآخرين.. فلا يدفعه حب فئة إلى تصويب ما لديها وإن كان خطأ، ولا يدفعه بغض أخرى إلى تخطئة ما عندها وإن كان صوابًا... ولا يسارع في الحكم على الأمور بظواهرها... فينتقد ويفند ويتهم لمجرد صدور عبارات تحتمل وجوهًا عدة، فتراه يعمد إلى اختيار الاحتمال الذي يناسب توجهه..ولا يرى غيره... في حين أن قائلها ربما يقصد أمورًا أخرى لم يُدركها الأول... فلا يمكن التعامل مع السياسة كالتعامل مع عملية حسابية لها نتيجة واحدة فقط، ولا تؤوّل بأي شيء آخر ... هذا التعامل غير وارد في الأمور السياسية... ففي الغالب ليس في السياسة أبيض وأسود...وإنَّ الحكم بالصحة أو الخطأ على جزئية؛ بناء على كلمة انطلقت من هنا.. أو موقف اتّخِذ من هناك في إطار موضوع عام وواسع..هذا الحكم مخالف لأبجديات التعامل الشامل والكلي في السياسة... وغالبًا ما يفعل ذلك أولئك الصنف الذين أشير إليهم آنفًا... ولنعد-مثلاً- إلى أبي ذر رضي الله عنه، وهو مَن هو من بين الصحابة الأجلاء الذي يُعدّ في القمة منهم أمانة وإيمانًا وإسلامًا وصدقًا... لكن لديه صفة ((الضعف في شؤون الإمارة)) فهذه جعلت النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه عن الخوض فيها، وممارستها... لأن ضعفه ذاك ربما يؤدي به إلى أمور يعقبها حسرة وندامة يوم القيامة ، فأراد صلى الله عليه وسلم، بِحُبّه له، أن ينقذه من هذا الموقف العصيب...والتزم رضي الله عنه بذلك..
أقول هذا الكلام، والشعب السوري يخوض ثورته المباركة... في الداخل، وهو يقدّم التضحيات الجسام، فلنرحمه بألا نشتت الأفكار حوله... ولينظر كل واحد منا الجانب الذي يتقنه، وليخدم الثورة من هذا الجانب... وليدع الجوانب الأخرى لأصحابها.. وعندئذٍ يحصل التكامل البناء، الذي يخدم القضيّة بحق، ويخدم الشعب وهو يعمل من غير كلل ولا ملل.. فالفقيه المتبصر يخدم بفقهه فقط، والأديب الشاعر يخدم بأدبه وشعره، والخطيب المفوه الفصيح البليغ.. يخدم بخطبته وبث روح الحماس في النفوس، وليدع هؤلاء ما يتعلق بالسياسة للسياسيين المهرة المحنكين الذين صقلتهم التجارب، ويعرفون كيف يسوسون الأمور... وأرجو ألا يُفهم من كلامي أني أسد باب النصح وإبداء الرأي...معاذ الله، ولكن ليكن ذلك عبر قنوات من شأنها أن تعطي النصيحةُ أكلَها، لا أن تكون فضيحةً تثير بلبلةً، وتفرق كلمةً، وتُمزّق صفًا؛ حتى ولو كان صاحبها لا يقصد ذلك...
ولا يقولَنّ أحد، من باب التحدث بنعمة الله عليه، أنه يُتقن الفنون كلها، وأنه كما يُقال مثلُ النحاس؛ من أي جهة ضربته رنّ وصوّت... فقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بذلك الادعاء... وأولى بأن يتصفوا بتلك الصفة... بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحقَّ بذلك من سائر البشر قاطبة، ولكنه أُثر عنه صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل أن قال: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)).. فلنتق الله في الثورة ورجالها، والعاملين لها أيا كان موقعهم، ولنتريث في التدخل فيما غيرنا يتقنه أكثرَ منا، ولنُمسك عن ذلك سواء كان الأمر تأييدًا ودعمًا أو تبكيتًا ونقدًا.. ولنترك الأمور إلى أصحاب الأمر والدراية فهم أجدر، ولاسيما إذا توافق جمع غفير على الشهادة لهم بذلك إلى جانب الأمانة والصدق...
قال تعالى: (( وإذا جاءهم أمرٌ من الأمنِ أو الخوفِ أذاعوا به، ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لَعلمه الّذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)) النساء83.
وأي أمر يهمنا الآن أجدر بأن يوصف بالوصف الذي ورد في الآية الكريمة (الأمن والخوف) من أمر يخص الثورة السورية، ومتعلقاتها جميعًا؟؟... فلْيُسنَد كل متعلّق بها إلى من يستطيع- بجدارة- أن يستنبط من ذلك المتعلق ما يعود بالفائدة والخير للثورة ورجالاتها.. وإلا فإنّه يُخشى على من لا يفعل ذلك أن يكون ممن اتبع الشيطان، وهو لا يدري، ومآل ذلك الخيبة والخسران والعياذ بالله.
وأمر آخر؛ أحسب والله أعلم، أن تقديم المفضول على الفاضل وارد هنا، ما دام المفضول يُتقن أمرًا ما، مُحددًا، أكثر من الفاضل، وفي السيرة كثير من الأحداث التي يُستأنس بها في هذا الشأن، كقيادة أسامة للجيش وفيه من هم أفضل منه... وأقول هنا (الفاضل والمفضول) فيما يبدو لنا نحن البشر، أما الأفضلية الحقيقية فلا يعلمها إلا الله تعالى.   
اللهم اجعلنا ممن يهتدون بكتابك، ويقتدون بنبيك، ويتخذون من سيرته مع أصحابه مدرسة لنا نتعلم منها جميع ما يحل مشكلاتنا، ويأخذنا إلى النجاح والتوفيق.
جمعة ((المجلس الوطني يُمثلنا) في 9/ذو القعدة/1432 الموافق لـ 7/تشرين الأول/2011
محمد جميل جانودي


([1]) عن أبي ذر: قلت : يا رسول الله ! ألا تستعملني ؟ قال : فضرب بيده على منكبي . ثم قال ( يا أبا ذر ! إنك ضعيف . وإنها أمانة . وإنها يوم القيامة ، خزي وندامة . إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها  .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق