الخميس، 25 ديسمبر 2014

يا واديَ الضيف....

يا وادي الضيف...
يا واديَ الضيف إن الضيفَ قد نزلا****واللصّ عنك قُبيل الفجـــر قد رحـلا
كم كان ضيفُك مُشتــاقًا لنيــلِ قِــرًى****من راحتيــك، وما يرضى له بـَــدَلا
يا وادي الضيفِ قم للضيفِ تكرمـةً****كم جــاد بالنفس والغالي وما بخـــلا
رحّبْ بضيفك وانثرْ فــوقــــه دررًا****فالضيفُ كان خمـيسًا رائـــدًا بـطــلا
للــهِ درُّ خمـــيسٍ ضـــــمّ كوكـبـــةً****للناس قد أصبحـتْ في بأسهَــا مثـــلا
بيضٌ وجــوهُهمُ، سـمْــرٌ زنـُــودُهمُ****سمـــاؤهم حُفـــظت، وأرضُهــم ذللا
حُمـــرٌ سيــوفهمُ، خُضــرٌ مرابعُهم****أبطــالُ مَلحمـــةٍ، قد مهّــدوا السُّبُـــلا
عند اللقا صُدُقٌ، وفي الوغى صُبُرٌ****عفّت نفــوسهمُ عَـــما حـــلا وغـــــلا
راياتهــمْ وُحّدت، قلــوبـُـهم أَخبـتتْ****للـــه خالـــقِـهم، قــــد طلّقوا الجـــدلا
صفوفُهم طُهّــرت من كلّ شـــائبــةٍ****ما كان منقطعــًا قد صار مُتّصــــــلا
لم يصرفوا همّهم لقــولِ ذي سفـــهٍ****يروغُ في قـــولِه، ويمتَـطي الحِــيَــلا
كالأسْــدِ قد ربضت، ثارت شهيّتُها****لمجْــــرمٍ قــــذِرٍ فـي طبْعـــه سفــــلا
تــدوســـه  ذلّــةً، تُذيْــقُـــه علْقـــمًا****تصــليه من جمرها، تعـــافُــهُ أكُــــلا
كم جنْدلوا من رؤوسِ البغي قاطبةً****فــأزكمتْ ريحُهم ســــهلًا تلا جَبَــــلا
ما رام ضيفُــكَ إلا أن يـــــــكونَ له****سبـــقٌ لطرد عـِـدًا، أكـرمْ بما فعــلا
لمْ يـــأتِ نصــرُهــمُ من غير تهيئةٍ****بل إنّ وحــدتهم أحـــيَــت لهم أمــــلا
سمتْ نفــوســهمُ عن كل مهْـــــزلةٍ****بفضـــل إيمـــانهـــا قد أشــرقتْ مثُلا
الحــــلمُ زيَّنهــم والصــبرُ جمّـــلهم****والعفْوُ من طبعهمْ عن كلِّ من جهِــلا  
همْ فتيــةٌ هَـــجــروا لذيذ عيْشــــهمُ****من أجـــل أُمتِهـــم، لم يعرفوا الكسلا
يا ثائرون على طُغــــاةِ عصرهـمُ****كونوا على حــذَرٍ، يا بُؤس من غفــلا
فاللــه أعطــاكمُ درسًا لـــه عبــــرٌ****فلتحفظوا الدرس حتى تُبْعِـــدوا الزّللا
إن شئـتُمُ، إخوتي، نصرًا يُحالفــكم****فانفــوا عــدوًا إلى صفوفكم دخــــــلا
واستمسكوا بِعُرى الرّحمن بارئكم****ما خاب مَنْ لِعُـرى الرحمن قد وصلا
الجمعة 27 صفر/1436 الموافق 19/ كانون الأول/2014

الأحد، 14 ديسمبر 2014

أخوة الإيمان

أخوّة الإيمــان....
للإيمان حلاوة وطلاوة، ولإخُوّة الإيمان نداوةٌ وطراوة...وللإيمان، إن كان صاحبُه صادقًا، أثر في القلب لا ينمحي، مهما تناوشته الأدران، وغشته عوامل الرّان...ولإخوّة الإيمان روح تسري في عروق المتآخين، مضمخة بالعطر والمسك والرياحين، فتجعلهم يتنافسون في الحبّ والإيثار، ويتسابقون لخدمة بعضهم في الليل والنهار، حاجاتهم بسواعدهم مقضية، وخلافاتهم الدنيوية مطوية، قُوتهم لا تُقهر، ومآثرهم لا تُنكر، حبهم لبعضهم عظيم يستمد عظمته من عظمة حبهم لله، وحُبّهم لله لا يعلم أحد إلا الله مداه، ولهذا كان أحبّ شيء للشيطان هو التحريش وإفساد ذات البين، وأبغض شيء عنده هو الإصلاح بين المتخاصمَين أو المتدابرَيْن... وللسبب نفسه يحرص الأعداء على اقتلاع شجرة الأخوة من أصولها، وتتبع فروعها وذيولها، فلا يدَعون لهذا الغرض دربًا إلا يطرقونه، ولا ناعقًا بذلك إلا يتبعونه، لكنهم في حُسبانهم واهمون، وفي مسعاهم خائبون....فقد قال الله لسيدهم إبليس من قبل: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، فأنّى لأتباعه أن يكون لهم ما عجز أن يحوز عليه سيدهم... هيهات هيهات...    
أُخُــوّةُ الإيمــان
حلّقْ بروحك في سما الإيـمـــانِ****وانعمْ بــه في جنّــةِ الرضوان
واهنــأ بعيــشٍ في ظلال محبّـةٍ****مع إخـوة، طوبى لذي إخــوانِ
معهم تـــــــكون معلّما مُتـــعلّمًا****فهمُ منابـــع أبحــر العـــرفــانِ
وبهم تُحسُّ بأن رأســـك شامــخٌ****وبأن ركنــك أمتــــن الأركانِ
وبأن ريحَـــك طيّــبٌ ومطَـيّــبٌ****عبِقٌ بعِــطر المسك والرّيحانِ
فأخُــــوةُ الإيمان ليس كمثْــلـــها****في صقل نفسِ مُعذبٍ حيـرانِ
وأخــوةُ الإيمـــان نجْــــمٌ ساطعٌ****يهدي إلى أمن الورى وأمــانِ
هي خيــمةٌ يــأوي إليـها مُتعَــبٌ****فتقيه غــــدر الماكر الخـــوّانِ
هي موئل المُستضعفين وحصنهم****وملاذهم، هي مَورد الظمآنِ
هــيَ جَـنّةُ الدّنيا لِمن ضاقــت بـهِ****أفنـــاؤها، فتَــضُمّــهُ بحنــانِ
اللــه أحكمَ عـقــدهــــا وربــاطَهـا****بين القلوب بمُحـكــمِ القـرآنِ
حصَرَ الأُخُـــوّةَ في شبابٍ مازهم****عـلمٌ وإخلاصٌ مدى الأزمانِ
هُـمْ ثُـلّة في الآخِـرين وأمرهم****شورى،وهم حربٌ على الطّغيانِ
آخــاهمُ حبُّ الإلـــه ودينـــــــــــهِ****لا حبّ فــرعـونٍ ولا هامانِ
فإذا التقــوا فعــلى موائــدَ تستقي****شــهدًا لها من أعذب الغدران
وإذا تنَــــــاءوا فالتفــــرّقُ للجسو****مِ، وإنـما تتعـــانق الروحـان
فـالمــرء فيهــــمْ أُمّــــةٌ وبدونهــم****صفرٌ يؤول لعـــالم النسيــانِ
يغـدو مع الإخوان صرْحــًا شاهقًا****بعزيمةٍ أقوى من الصـــوّانِ
وبغيرهم هـــو ريشةٌ تـرمي بِـــها****ريحُ السّموم بحمــأة القيعانِ
إنّ الأخُــوّة نعـــمــةٌ ما فــوقــــها****من نعــمةٍ إلا رضا الرّحمن
هي نعْـــمَـة، والحاسدون لأهــلها****يسعون في إيـــذائهم بهــوانِ
يا جاهِــلون بنعْــمةٍ مُنِحَـــت لكم****من عالِمٍ بـــمصــالحِ الإنسانِ
نعمـاؤه ظهـــرت بديْــــنٍ كامــلٍ****بالقسط جــاء ودقّـــة الميزانِ
وشريعَــــةٍ غـــرّاء كان قوامُـــها****هـدْيَ الكِتـابِ وسنّةَ العدناني
لا فـــرق بين الناس في أعراقـهم****وتفاوت الأجــنــاس والبلدانِ
أكْــرمْ بِها من شِرْعــةٍ قد كرَّمتْ****أهل التُّقى والنّفــــعِ للأوطانِ
يا جــاهِـــلون بــدُرّة مكنــونَـــــةٍ****أغلى منَ الياقوتِ والمَرْجانِ
عودوا لِــرُشـدِكمُ ولا تسعـوا إلى****التقليـــد مثل البُكمِ والعميــانِ
عودوا قُبَيْلَ رحيلكم عن ذي الدنى****ووقوفِكم في حضرةِ الدّيـانِ
وقِفُــوا بصـفِّ الْمخْبِتيْــن لربِّــهم****فهُـمُ غَدوا في قبضةِ السَّجّانِ
في كلّ يــومٍ تُهمــة تُرمـى لهـــم****من غيْـر تبيـانٍ ولا بــــرهانِ
حيـــــنًا بتشويــــه لهم في قـولهم****أو فعلهــــم أو حَرْفِهمْ لمعـان
حينًا بتألـيب الأعــــادي ضــدهم****ويُخوِّفونهمُ مــنَ الطّـــوفـــانِ
في بـوق إعْـــــلامٍ وزفـرةِ حاقـدٍ****متسلحيــــن بنفخــة الثُعبـــانِ
هــي سُنّــةُ الرَّحمن في أنْ يَبتلي****أحبابَه بالنّــقصِ والحِـرْمَـــانِ
أوْ ظـلْمِ ذي رحــمٍ وهـجرِ قرابةٍ****وأذيّـــــةٍ تــأتي من السّــلطانِ
يبــلوهمُ ليرى سلامــــة صدرهمْ****من كلّ شـائبةٍ من الأضغــانِ
ما كان يُعـــنتهم ويُكرههــم على****أمْـــرٍ يُبــاعِدُهم عنِ الإحسانِ
بــلْ إنّـــهُ يَجــلُـــوهمُ ويُعِـــدّهُــمْ****لِـــدُخـــولِ جنّــتِـهِ بلا أدْرانِ
ويُقـيــمُ حـجَّتــهُ عـلى مَن رامهمْ****بالسّوءِ، أو بشراسـةِ الْعـدوانِ
فيُذيْقُهمْ منْ سوء ما اقترفوا لظًى****يصْلَونَ فيهــا شـــدّة النيْـرانِ
فهــمُ الّــذيْــنَ اسْتنفَــروا أجنادهم****حــربًا على ديـْنٍ رفيعِ الشّانِ
وعــلى الّذين اسْتمْسكوا بحبَـــالِهِ****وأبَـوا حيــاةَ الذّلِّ والقُطعــانِ
خافوا الأخُـــوّة أن تلفّ حِــبالهـا****حولَ الرّقاب لزمرةِ الشيطانِ
خافوا الهدايــةَ أن تُنوّر قلب من****ظنــوهم يومـــًا من الأعــوانِ
أو أنّ ســـحــرهم يعود عـــليهمُ****شــرّا، وينقلبُــون بالخـــسرانِ
وإذا بهم قـــد أجلبـــوا بخــيولهم****ورجالهم، وتــوافـــه النسـوانِ  
ونســوا بأنّ اللهَ نــــاصــرُ دينــهَ****مهما جرى في دورة الحدثانِ
ذا وعده، وغدًا سينجـــزُ وعــده****ووعيـــدُه للمفتـري والجــاني
السبت 21/صفر/1436 الموافق 13/كانون الثاني/2014






الجمعة، 12 ديسمبر 2014

أعمدة الحياة الثلاثة (حسن العبادة)

أعمدة الحياة الثلاثة (حسن العبادة):
قال الرسول صلى الله عليه وسلّم لمعاذ: أوصيك بألا تدعنّ في دُبر كل صلاة أن تقول: اللهمّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.
كلمات قليلات، أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم حبيبه معاذًا، بعد أن حفز كل عرق فيه، وكلَّ جهاز استقبال، أن يستعد ويتأهب للأخذ بهذه الوصية، كان ذلك حين أمسك بيده يداعبه، ثمّ أخبره بأنه يحبه...
يا معاذ، اسأل ربك بعد أن تفرغ من كل صلاة أن يعينك على فعل أمور ثلاثة...أمور حددها له، فكم هي، إذن، مهمة في الحياة، وكم هي من الثقل والضخامة حتى تحتاج إلى تأكيد طلب العون من الله لأدائها وباستمرار.
قد تم المرور بسرعة على العمودين الأول والثاني؛ "الذكر" و"الشكر" في الإشراقتين السابقتين.
ثالثًا: حسن العبادة.
العبادة في الإسلام كلمة جامعة، شاملة لجميع مناحي الحياة للمسلم. فهي لا تقتصر، كما يظن بعض الناس، أنها تعني إقامة الصلوات المفروضة، وأداء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت...بل هذه تدريب عملي ونفسي لغيرها...
إن المسلم يكون على مدى اليوم والليلة في عبادة، (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)، فهو يستيقظ وفق سنة الله في ذلك، فيحمد الله أن أحياه بعد أن أماته، فهذه عبادة، ثم ينطلق ليطيع الله فيما أمره من وضوء وصلاة وذكر، وهذه عبادة، بعد ذلك يتوجّه إلى عمله، أيًّا كان ذلك العمل، منتشرًا في الأرض ومبتغيًا فضل الله ورزقه فهو في عبادة (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)، ثم يعود إلى بيته وقد حمل معه ما يحتاجه البيت من متاع وأغراض، فهذه أيضًا عبادة، ويدخل بيته مبتسمًا بإشراقة وجه بهية، يُدخل بها السرور إلى جميع أفراد الأسرة فيؤدي عبادة، ثم يقعد معه ويتناول طعامه معهم، وبعد ذلك يُحدثهم مسليًا أو معلمًا أو موجهًا أو ناصحًا، أو ملاعبًا ومُداعبًا، فذلك كله عبادة، ثم يقوم ببعض الزيارات لأرحامه وأصدقائه، وربما، إن أمكنه، يحمل معه بعض الهدايا، فتلكم عبادة، وفي طريقه يميط أذٍى يراه في الطريق، أو يُعين ذا حاجة، أو يدل ضالًا للسبيل، أو يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكر، فذلك كله عبادة، وفي نيته ألا يُطيل غيابه عن بيته ليعود ويطمئن على أن كل من في البيت، مستعد لأن يأوي إلى فراشه، وليس ثمة من همٍ أو غم أو حاجة له يجب أن تُقضى، فنيته تلك عبادة، وفي أداء الحقوق لزوجته، ولمن يعول عبادة، وفي نومه وهو ينوي أن يأخذ نصيبًا من الراحة ليستأنف عمله في الغد بهمة عالية ونشاط كبير، عبادة، يُلخص ذلك أنه وقف نفسه وحياته لله تعالى يعمل ما يُرضيه، ويبتعد عما يُسخطه.
وحُسن العبادة، هو أداء جميع ما مرّ ذكرُه بإتقان، وإخلاص، فلا يكون عمله لإسقاط العتب عنه، ولا يبتغى به أحد غير الله. فحسن الاستيقاظ في البكور، وحسن الصلاة بأدائها على الوجه الصحيح، بإتمام أركانها، وواجباتها، وسننها، بعد أن تُسْتوفى شروطها، وحسن الزكاة أداؤها من خير المال كاملة غير منقوصة، وحسن الصيام التقيّد بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بشأنه عملًا وخُلقًا، وحسن الحج أن يكون من مال حلال، خاليًا من أي رفث أو فسوق أو جدال، وحسن عبادة العمل أن يُؤدى كاملًا من حيث الزمن ومن حيث الجودة، يستوي في ذلك التاجر في متجره، والمدرس في مدرسته، والمهندس في مشروعه، والطبيب في مشفاه، والصيدلاني في صيدليته، والأجير فيما أُسند إليه من عمل، والمرأة في بيتها، أو مقر عملها، والجندي في ثكنته، والعالم في علمه ونشره، والقاضي في دار قضائه، والحاكم في تسيير شؤون البلاد بأسرها، والمحكوم في الطاعة بالعروف..... وهكذا
ومن المفيد والشعب السوري يخوض معركته لنيل حريته، وبسط العدل في ربوع بلاده، وهي معركة، كما هو واضح تجاوزت الحدود الجغرافية لسورية، أقول: من المفيد أن نشير إلى حسن عبادة الثوار وهم في الميدان، يكون ذلك بأن يتحدوا ولا يتنازعوا، وأن يطيعوا قادتهم بالمعروف، وأن تبقى عيونهم مفتوحة تحرس وتراقب، وألا يغلّوا، ولا يظلموا، وأن يأخذوا حذرهم فلا يدعون ثغرة يمكن أن يُختَرَقوا من خلالها، فيضيع ما عملوا، ويحبط ما صنعوا، وأن يتحابوا فيما بينهم، حتى يكونوا كالبنيان المرصوص، والجسد الواحد.

وبقدر ما تكون العبادة حسنة تكون نتائجها طيبة، وثمارها يانعة. فما أعظم هذا النبي الكريم، وما أبلغه، حين أوجز ما سبق ذكره هنا وفيما سبق عن الذكر والشكر، بكلمات قليلات في العدد، كثيرات في المدلول والمعنى والفائدة. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. 

الجمعة، 5 ديسمبر 2014

أعمدة الحياة الثلاثة (الشكر).

أعمدة الحياة الثلاثة (الذكر والشكر وحسن العبادة):
قال الرسول صلى الله عليه وسلّم لمعاذ: أوصيك بألا تدعنّ في دُبر كل صلاة أن تقول: اللهمّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.
كلمات قليلات، أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم حبيبه معاذًا، بعد أن حفز كل عرق فيه، وكلَّ جهاز استقبال، أن يستعد ويتأهب للأخذ بهذه الوصية، كان ذلك حين أمسك بيده يداعبه، ثمّ أخبره بأنه يحبه...
يا معاذ، اسأل ربك بعد أن تفرغ من كل صلاة أن يعينك على فعل أمور ثلاثة...أمور حددها له، فكم هي، إذن، مهمة في الحياة، وكم هي من الثقل والضخامة حتى تحتاج إلى تأكيد طلب العون من الله لأدائها وباستمرار.
قد تم المرور بسرعة على العمود الأول "الذكر" في الإشراقة السابقة.
ثانيًا: الشكر.
اللهمّ أعني على شُكرك، بعضهم يسأل: وهل الشكر سوى بضع كلمات يرددها اللسان، مثل: الحمد لله، أو الشكر لله، أو ما شابهها من عبارات أخرى تقوم مقامها... كلمات يسيرة ..أتحتاج هذا التركيز والحث من الرسول صلى الله عليه وسلم لحبيبه أن يطلب العون من الله لأداء هذا الشكر... وإن كان كل عمل مهما كان سهلًا أو يسيرًا فإنه بغير عون الله تعالى لا يمكن للمرء أن يقوم به.... إلا أن هذا التخصيص والتوصية يعنيان أن الأمر أكبر من أن يكون كذلك...
نعم إن من صور الشكر تلك الكلمات... ولكنها تفقد بريقها وآثارها العظيمة حين لا يكون عمل اللسان مربوطًا بالقلب، القائد الأعلى لكل جوارح الإنسان... فمثلًا حين تريد أمرًا من جهة ما، ويأتي أحد العاملين العاديين فيها ويعدك به، فأول ما يتبادر إلى ذهنك سؤاله: أهذا الوعد من عندك أم بإذن وتوجيه من المدير العام؟ فإن عزا الأمر إلى المدير العام أيقنت أن نفاذه قطعي، وأن حاجتك ستُقضى، فتغدو مطمئن النفس، أما إذا علمتَ أن ذاك الوعد هو من عند ذاك الموظف فقط، فتبقى غير مطمئن إلى أنك ستحصل عليه... وهنا القلب هو المدير العام، والقلوب، كما ورد في الحديث، بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلبها كيف يشاء، فلا يملك اللسان أن يتوجه من قبله إلى بعون من الله تعالى.
والعون من الله، سبحانه وتعالى، على أداء الشكر يتضح بجلاء حين ننتقل إلى الصور الأخرى من صور الشكر وحالاته، والتي هي أهم بكثير من الصورة القولية. فالشكر يكون على النعمة وإسباغها على الإنسان... وما أكثر تلك النعم!!! فالصحة نعمة وشكرها يكون في استخدامها في مرضاة الله، والابتعاد عن سخطه، فلا يستخدم اللسان في غيبة أو كذب أو نميمة، أو تحريش بين الناس، أو تأييد لباطل، أو مدح وثناء على ظالم، بل يتمثل الشكر على صحة اللسان بقول الصدق، وإصلاح ذات البين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذب عن عرض كل مؤمن، وكذلك يكون شكر اليدين باستخدامهما في إعانة الضعيف، ومنع الأذى، وكتابة الكلام الطيب، و... والشكر على صحة الرجلين بالمشي عليهما للمساجد، وزيارة الأرحام والأصدقاء وصلتهم، والجهاد، و... وشكر صحة العينين أن ينظرا في المصحف لتلاوة القرآن، والبكاء من خشية الله، والسهر للحراسة في سبيل الله، وعدم النظر بهما إلى ما حرّم الله.... وهكذا يكون الشكر بالنسبة لصحة باقي أعضاء البدن...
ومن صور الشكر؛ الشكر على الغنى، ويتمثل في الإنفاق في سبيل الله، المحقق في الجهاد لإعلاء كلمة الله، وإطعام الجائع، وإكساء العريان، وإيواء الطريد الشريد، وفتح السبل للتعليم، وعمارة مساجد الله، عمارة مادية ومعنوية، والقيام بالمشاريع التي يعود نفعها للناس كافة، كحفر الآبار، وبناء المستشفيات وتجهيزها، وبناء المدارس، ودور الرعاية....والتحري بدقة عن أولئك الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، فيكفونهم المؤونة، ويكفّونهم عن الاضطرار إلى المسألة... و....
ومن صور الشكر؛ الشكر على العلم، فالعلم من أكبر النّعم التي يهبها الله لعباده، والشكر هنا يتمثل في بذله لمن يحتاجه، والصدع به، وعدم كتمانه، والعمل به، من غير خوف ولا وجل، والحفاظ على حقيقته ومدلوله من غير تحريف أو تبديل، وغير ذلك...
ومن صور الشكر؛ الشكر على نعمة الأبناء والبنات، والإخوة، والأصدقاء، ويمثل الشكر هنا في تربية الأبناء تربية صالحة تفضي بهم إلى أن يكونوا لبنات قوية في المجتمع، ينفعون سواهم من مكونات هذا المجتمع، وفي الحفاظ على الأخوة والصداقة بأداء كل ما تتطلب من حقوق وواجبات....
وهناك صور كثيرة للنعم ولشكرها، ولكن أهم نعمة تستحق الشكر الأعظم والأكبر هي نعمة الهداية إلى الإسلام، الذي فيه فلاح الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة، ويتمثل شكر هذه النعمة بالالتزام به بقوة، والعمل بتشريعاته، والتحلي بأخلاقه وآدابه الشخصية والأسرية والمجتمعية، والعمل على إيصاله للآخرين بالحكمة والموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة، والقدوة الصالحة، وعدم تنفير الناس منه بأفعال خاطئة، وأفهام سقيمة....ويكون شكر هذه النعمة، أيضًا، بالذب عن هذا الدين العظيم، علميًا، وفكريّا، وماديًا، بالمناسب من الطرق والوسائل والحجج...
وصور الشكر كثيرة بكثرة النعم التي لا تعد ولا تُحصى، وكما رأينا، فإن أداء هذا الشكر بالذي تم بيانه، لا يمكن أن يكون بغير توفيق من الله وعون ومدد... وهذا ما يجعل المرء يفهم، بجلاء، وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ، رضي الله عنه.  


الجمعة، 28 نوفمبر 2014

أعمدة الحياة الثلاثة (الذكر)

أعمدة الحياة الثلاثة:
أولًا: الذكر.
قال الرسول صلى الله عليه وسلّم لمعاذ: أوصيك بألا تدعنّ في دُبر كل صلاة أن تقول: اللهمّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.
كلمات قليلات، أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم حبيبه معاذًا، بعد أن حفز كل عرق فيه، وكلَّ جهاز استقبال، أن يستعد ويتأهب للأخذ بهذه الوصية، كان ذلك حين أمسك بيده يداعبه، ثمّ أخبره بأنه يحبه...
يا معاذ، اسأل ربك بعد أن تفرغ من كل صلاة أن يعينك على فعل أمور ثلاثة...أمور حددها له، فكم هي، إذن، مهمة في الحياة، وكم هي من الثقل والضخامة حتى تحتاج إلى تأكيد طلب العون من الله لأدائها وباستمرار.
اللهم أعني على ذكرك؛ والذكر، كما هو معلوم واسع المدلول، وأول ما يتبادر إلى الذهن هو ذكر اللسان، واللسان لا يذكر شيئًا أو يردده إلا بعد تلقيه الأوامر من القلب... فإذا أحب القلبُ ذاك الشيءَ أمر اللسان بذكره، وأمرَ العقل بتصوره واستحضاره، وأمر البصر والبصيرة بتمثل آثاره،... ومن كان ذكره بغير هذا فذكره قليل عليل، وهذا ما وصف به الله سبحانه وتعالى المنافقين، إذ قال عنهم (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى، يُراؤون الناس، ولا يذكرون الله إلا قليلاً).
ومن حالات الذكر؛ ذكر الله في النفس، والشعور بمعيته في كل حال من أحوال الذاكر، في إقامته وسفره، وفي أكله وشربه، وفي نومه ويقظته، وفي حربه وسلمه، وفي صداقته وعداوته، وفي عمله أنى كان نوع ذلك العمل، يستشعر صحبة الله معه، ومعيته له، فينتج عن ذلك إحساسه بأن قوة، لا حدود لها، تدعمه، وتشد أزره، وأنّ علمًا واسعًا، اتساع البحار بل أكثر، ومحيطًا بكل شيء، يغرف منه ليسير على بينة ووضوح وجلاء، وأن رحمة تغمره كله، فلا يُحس، وهو على حالته تلك، بتعب أو نصب أو عذاب، وأن ركنًا شديدًا يأوي إليه، ويبقى في كنفه وظله، فلا يخاف ولا يجزع، وأنّ... وأنّ.... ذاك هو ديمومة ذكر الله في النفس... ولذلك فإن القلب يطمئن، والنفس تزكو، والحياة تطيب. قال تعالى: (ألا بذكر الله تطمئنُّ القلوب) وقال: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى) ولذلك طلب الله سبحانه وتعالى من المؤمنين حين يكونون في ساحة الحرب، ويتأهبون للقاء عدوهم أن يذكروا الله كثيرًا، لأنهم، في تلك الحال، أحوج ما يكونون إلى طاقة تغذيهم، وقوة تمدهم، وحصن يحتمون به، وطمأنينة ينطلقون بها على ثقة بالنصر... قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثْبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون).
ويترتب عن ذكر الله باستحضار النفس لمعية الله لصاحبها، أن يجعله يصحو بعد غفلة، وينهض بعد زلّة، ويندم بعد لمم، ويُتبع حسنةً في إثر سيئة، قال تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون )... ذكروا أن معهم من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن معهم من لا يغيب عنه مثقال ذرة أو أقل، وذكروا أن معهم من يعلم ما يُبدون وما يكتمون، وأن معهم قادر وغافر، فيسارعون بذكرهم ذاك إلى ترك الفاحشة، ومغادرة موطنها وظروفها، والابتعاد عن محفزاتها والمغريات بها، ويُصممون على ألا يُصروا على البقاء في مستنقعها ومداومة الانغماس فيه...
والذكر هو الرفعة وعلو الشأن، فذكر الله، بهذا المعنى، هو تقديسه وتنزيهه وتسبيحه، والثناء عليه، والاعتراف بالعبودية له وحده، والخضوع له بكل ما أمر ونهى، قال تعالى: (وإنه لَذكر لك ولقومك) أي القرآن هو شرف ورفعة لكم.
تلك هي بعض الومضات عن ذكر الله، فأي أمر عظيم يكون عليه ذكر الله هذا؟!... ولا ريب في أنه يحتاج للتحلي به، والعمل بمدلولاته؛ أن يطلب المرء عونًا من الله تعالى على ذلك، وكأن طلب العون هذا يعني فيما يعنيه الدعاء: اللهم أعني على أن أقوم بأعمال تصبغني في نعيم حبك، حتى أذكرك ذكرًا يليق بجلالك وعظمتك، فأفوز بأن تجعلني من (الذاكرين).
وفي إشراقات قادمة إن شاء الله يكون الحديث عن الشكر، وحسن العبادة، وهما مع الذكر أعمدة الحياة الطيبة ودعائمها للمسلم.


السبت، 22 نوفمبر 2014

من المدرسة النبوية في التربية

"إشراقة"
من المدرسة النبوية في التربية.
عن معاذ – رضي الله عنه --أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1)   أخذ بيده.
2)   وقال: يا معاذ، إني لأحبّك.
3)   أوصيك يا معاذ، لا تدعنّ في دُبُر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.

ما أعظمك يا رسول الله، معلما ومربيًا، وناصحاً! فهذا الحديث يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينصح معاذًا بنصيحة تنفعه في دنياه، وآخرته، وفي محياه ومماته، فلم يأمره بها بأسلوب جاف، وبصيغة أمرية فوقية، ولا بصيغة المتعالم، ولا بطريقة تجعل معاذًا يُحس أنه تلميذ صغير... بل قدم نصيحته مصحوبة بسلوك جذاب ومحبب. فقد أمسك بيده مسكة لرفق وحنان، مسكة يُحس بها معاذ أن دفقات من الحب تسري في جسده كله، وفي عروقه، وتلامس شغاف قلبه، فيستنفر كل خلية من جسده لتكون مستعدة لاستقبال ما سيجود به العطف النبوي الحاني... هنا كان أذنا معاذ متحفزتان لسماع ما يقوله له النبي الكريم، ومتلهف لأن يحظى بذلك التوجيه السامي... ولم يكن يتوقع أن هناك مفاجأة أخرى غير لمسة الحنان تلك، مفاجأة من شأنها أن يبسط  صفحات صدره لينقش فيها النبي سطورًا من نور...وهذا ما حصل... فقد غدا كل سلمي فيه، وكل عرق ينبض، يتغنى فرحًا وسعادة بتلك الكلمة التي فاجأه بها نبيه ومعلمه وناصحه وهاديه... (يا معاذ إني لأحبك)... ولنقف قليلًا عند ندائه الرخيم له باسمه: "يا معاذ" ، فقدمه كتعبير آخر عن الحب يسبق عبارة "إني أحبك"...وعلى المرء أن يتصور بحار الغبطة والسعادة التي كان يسبح فيه معاذ، وهو يسمع ترديد اسمه من قبل أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام...ثم إنه لم يقل له: إني لأعلمك أو إني لأنصحك ... بل قال له كلمة تحمل من قوة العبور والنفاذ ما يجعلها تصل بأسرع من لمح البصر إلى فؤاد معاذ ووجدانه... فيغدو أكثر جاهزية واستعدادًا للأخذ والتلقي.... فقد علم النبيّ الرسول، والمربي الأول، والأستاذ العظيم، أن للحب قوة وفاعلية لا تقاومها أي قوة أخرى.... قوة تصقل النفس وتزكيها، وتسمو بالروح وتحلق بها... هذه القوة تعشقها الآذان، وتتلهف لها القلوب، وينصاع المرء لمالكها طواعية برغبة وتشوق......قال له ذلك وما زالت يده الكريمة الحانية تداعب يد معاذ برقة، فتضافرت بذلك قوتا الجسد والروح... فأنى لمعاذ أن لا يستجيب لما يُطلب منه، أو يُنصح به... ولما علم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذلك انتقل إلى ما يريد من معاذ، فقال له بلغة الأخ الكبير الحاني، المحب المخلص، والمعلم الرؤوف: أوصيك يا معاذ...فراح يردد اسمه مرة أخرى، وهذا إشعار آخر له بأنه يحبه ، أوصيك... والوصية طلب برفق ورقة... ولننظر بدقة إلى ما قال له: لا تدعن في دبر كل صلة....و"لا تدعن" لها وظيفة تربوية رائعة... ولفتة يجدر أن ينتبه المربون إليها... فهي تُشعر المرء بأنه يقوم بالموصى به أحيانًا، أو أن لديه علمًا به، وكأنها تذكرة لا أكثر، ولا يُوصى من جهل عنده، أو إهمال، لكن (لا تدعنّ) تحثه على التمسك بفعله، وعدم تركه، أو الانقطاع عن قوله... وكأنه يقول له: يا معاذ، أنت تقوم بذلك أو بقريب منه، ولكن حافظ عليه ولا تدعه البتة...ثم يُوضح ويُفصل له ما يريد الحبيب من حبيبه فيقول له: لا تترك عقب كل صلاة أن تدعو الله طالبًا منه العون على ذكره وشكره وحسن عبادته. وهذه الخصال الثلاث يحتاج الوقوف عند طلب العون على أدائها إلى إشراقة أخرى فأسأل الله العون في ذلك. 

السبت، 15 نوفمبر 2014

أول الناس دخولاً الجنة

أول الناس دخولًا الجنة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هل تدرُون أولَ مَن يدخلُ الجنةَ من خلْقِ اللهِ عز وجل ؟ قالُوا اللهُ ورسولُه أعلمُ قال : الفقراءُ المهاجرون الذين تُسدُّ بهم الثغورُ ، وتُتَّقى بهمُ المكارِهُ ، ويموت أحدُهم وحاجتُه في صدرِه لا يستطيعُ لها قضاءً....
الفقراء المهاجرون....تحملوا في سبيل الله تعالى بلاءين عظيمين؛ بلاء الفقر، الذي ما ابتلي به امرؤ إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وتملك نفسه الحيرة، وركبتها الهموم، والمال ، كما يُقال، عصب الحياة، فمن فقده فقد الإحساس بالحياة... أما البلاء الثاني فهو هَجْر الدار والأهل والوطن والعشيرة، نصرةً لدين الله، أو فرارًا من أن يُفتنوا في دينهم، هؤلاء الذين لم يشغلهم التفكير في لقمة العيش، لهم أو لمن يعولون، لم يشغلهم عن المبادرة والسبق في الهجرة لنصرة الحق وتأييده، أو لإنقاذ أنفسهم من جحيم الكفر والفتنة والذل والهوان؛ بالبقاء في دار يسودها الظلم، ويتحكم في مفاصل الحياة فيها طغاة ظالمون، يستمرئون استعباد الناس وتسخيرهم لخدمة أهوائهم ومصالحهم.. فتحمل أولئك، بذلك، مشقة الفقر ومشقة الغربة وهجران الأهل والأحبة...ولذلك استحقوا من الله عز وجل تكريمًا على تكريم، تكريم في الدنيا إذ جعلهم في مقدمة من هم أهل لفضائل الأعمال، تلك الأعمال التي لها نفع كبير في حياة الناس جميعًا، وبها تُدفع أخطار عظام، يمكن أن تجر على الأمة كوارث لولا دفعها، فهم الذين تُسد بهم الثغور التي تُفتح في جسد الأمة، فيكون من جراء فتحها هدر لما لدى الأمة من طاقات في مختلف المجالات الحياتية، أو بفتحها تكون هدفًا ثمينًا للأعداء؛ لأن يتسللوا من تلك الثغور، فيخربون ويفتكون بقيم الأمة، ومبادئها، فضلًا عن الإفساد فيها وإهلاك الحرث والنسل!!! عندئذ يأتي هؤلاء الفقراء المهاجرون، وقد تدربوا نفسيًا، وجسديًا، على مواجهة الصعاب والشدائد، ويسدون تلك الثغرات، مهما كان نوعها، فيمنعون الطاقات من أن تُهدر، والدماء من أن تنزف، ويمنعون، أيضًا، العدو من أن ينفذ إلى كيان الأمة وينخر فيها حتى تتهاوى دعائم وجودها، واحدة تلو الأخرى .. فتغدو أثرًا بعد عين!!!
وثمة فضيلة أخرى لهم ، تتجلى في أن يكونوا دريئات، للمجتمع، تُتَّقى بهم المكاره على تنوعها وتباينها، ذلك لأنهم يمتلكون، بصبرهم وثباتهم، وسمو نفوسهم، مناعة تتكسر على جدرانها كل معاول الهدم التي تتعرض لها الأمة، والمتمثلة في مكاره شتى، كالجهل، والذلة والصغار من الفقر المدقع، وتفشي العصبية المقيتة، لعرق أو قبيلة، أو حزب، أو إقليم، وسلوك طرق ملتوية في الوصول لغاية ما، والخنوع للظلمة، وغير ذلك من المكاره، فيأتي هؤلاء الفقراء المهاجرون، ليكونوا قدوة في المجتمع ، يحفزون الناس على الصبر والثبات، ورفض الظلم، ومحاربة كل مفسدة، وبذلك يكونون حصونا تقي الناس من شرور تلك المكاره، ومقاومة إغراءات الشيطان بحب الدنيا والدار والأهل، هذا الحب الذي يُفضي إلى الركون والدعة، وإيثارهما على الهجرة لنصرة حق أو اتقاء فتنة،...
هؤلاء الفقراء المهاجرون يُقدمون ذلك كله للأمة، عن طيب نفس، ورغبة شديدة فيه،  لكنهم في الوقت نفسه، يسمون بأنفسهم عن قضاء حوائج خاصة لهم، فمن عفة نفوسهم، والإيثار الكبير الذي تتميز به تلك النفوس، يسارعون إلى قضاء حوائج الناس قبل قضاء حوائجهم، بل في كثير من الأحوال تظل حاجاتهم تمور في صدورهم، لا يقضونها، ولا يجدون لإطفاء ذلك الموران الملتهب غير قضاء حوائج غيرهم... فيشعرون، بما يفعلون، بسعادة تتضاءل أمامها جميع سعادات الدنيا...
من أجل ذلك كله نالوا ذلك الشرف العظيم من الله سبحانه وتعالى...
وأما التكريم الثاني فكونهم أول الناس دخولاً الجنة في صحبة خير البشر من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
وهؤلاء، والله أعلم، ليسوا مخصوصين بزمان معين أو مكان معين، فهم موجودون على مدار الزمان، وعلى تباين المكان، يستلهمون من أساتذتهم الأوَل، صحابة رسول الله  الكرام وآل بيته الطاهرين، ما يقومون بمهمتهم على أكمل وجه، وأفضل قيام.

فكم، نحن المسلمين، بحاجة إلى الوقوف مليًا عند هذا الصنف من الناس، لعلّ الذين يتسابقون، منا، إلى دخول الجنة، من غير أن يُدققوا في صحة أو جدوى ما اتخذوه سبيلًا لذلك، ليتهم يقفون ويتأملون صفات هؤلاء، فيتخذون من هجراتهم القسرية التي أرغموا عليها، ومن ضيق ذات اليد التي يعانون منها، وهم محاصرون في لقمة عيشهم، وجرعة دوائهم، وهُدمة ثوب يسترون به عوراتهم، ويتقون بها حر الهاجرة، وزمهرير الشتاء... ليتهم يُحولون معاناتهم تلك لتكون دِربة على صبر عظيم، وعمل كبير لنفع الناس ودرء المخاطر عنهم... ليتهم يفعلون ذلك، ونحسب أن بعضهم يفعله، ليضيفوا إلى صدق توجههم في طلب الدنيا، صواب عمل يرضى الله عنه، فيثيبهم أجرهم مرتين، ويزيدهم تكريمًا على تكريم...   

الثلاثاء، 4 نوفمبر 2014

حسناء...ثمرة مباركة

حسناء....ثمرة مباركة
لله در الثورة السورية، كم أعطت وكم منعت، وكم جمعت وكم فرقت، وكم سترت وكم فضحت، وكم أذهلت وفاجأت، وكم صقلت وزكت، وكم جادت وكم أمسكت...
ثورة رسمت خارطة من نوع خاص لسورية...بجميع أصناف الخرائط وأنواعها... للأرض...وللناس.... خارطة تمازجت فيها الأعراف والعادات، وتعانقت فيها القيم والمبادئ... فغدت سوريا مشهدًا متكاملًا، وكتابًا مفتوحًا، لكل فضيلة وقيمة...
وكان من ثمار ذلك كله، تلاقي الأجساد والأبدان بعد تلاقي الأرواح...تلاق ميمون، تسعد به الأرض وتباركه السماء... تجلّى ذلك فيما نراه من انصهار عجيب في بوتقة الثورة...
وكانت ولادة الطفلة "حسناء الملحم" إحدى الروايات التي تجسد فيها ذلك الانصهار... فلنعش مع تلك الرواية التي ترد على لسان أمها الدّاريّة في هذه القصيدة...
بين أنقـاض وأشــــلاء ورُعــبِ****بـيــــن أنـــاتٍ وآهـــاتٍ وكــربِ
وعلى ضـــــــفّــة نهــرٍ مـن دمٍ****طاهر، قــانٍ لقــــد ناجَـيـت ربي
يا إلهي، إنّ "داريّــا" غـــــــدت****دار سجني، وأجـاجًا صار عذبي
وبكت فيــــها الأقـــاحي تشتكي****من جفـــافٍ قد غَـزاها دون ذنبِ
كلّ صُبـحٍ كان عـــــمي حامـلًا****في حنانٍ، واشتياقٍ مـــاء شــربِ
وأبي ما زال يحـــيـــــا ذكــــره****في فـــؤادي، ناطقًا آيــــات حبي
قــد تـــــلاشى كلّ هــذا فـجـــأةً****وغــزت أحــلامَــــنا أفلامُ رُعبِ
يا إلهي، جـاءنا وحـــش عــــدا****مُوقــدًا بالحـقــدِ نيــــرانًا لحــربِ
فاغــرًا فـــــاهُ عليـنـا غــاصـبـًا****كل شيءٍ، كلّ عرضٍ، كلّ قــلبِ
لسـتُ أدري والمنـــايا أصبحتْ****حاصـداتٍ أهـلَنا من غيـــر نـدبِ
فجــأةً ألفيت نفسي فــي حمــــى****من رجـوتُ أن أراه اليـوم جنبي
إنّــه مـن "بــابا عمـــرٍ" إنّــــــهُ****يعــربيٌ، مـسلمٌ، أضحى بقــربي
جمــــع المولى الكريـــمُ بينــنــا****في رضــاه قد سلكنـا خيـرَ دربِ
أنْعـــمَ المَـــولى عليــــنا بابـنـــةٍ****في ربُوعٍ حُرّرتْ من نـاب ذئبِ
سُمّيتْ حسنــاءَ من حُســن لـــها****ذات دلّ وحــــيـــاءٍ ذات جـــذْبِ
ولهــا عينــــان زادت سحـــرَها****شعـتـا نــوراً لشـرقٍ ثـمّ غـــربِ
زانَــهـا ثغــرٌ يحاكي بُـــرعُـــمًا****لورودٍ قد غفـت من فـوق عـشبِ
لا تسلْ عَـــن وجنتــــيها فهـمــا****وجنتـا تفاحــــةٍ  حمــراء خضبِ
ورثَـــتْ عَـــن أبـــويــــها أدبــًا****بَـــرّة كانــتْ لمـــا شــــاءا تلبـي
إنّ ربّــي مُبْــدعَ الأكــوانٍ قــــد****أبـدعهـا، ووقــاهــا شـرّ خطْــبِ

الإثنين 10/محرم/1436 الموافق 3/تشرين الثاني/2014

الخميس، 30 أكتوبر 2014

من ضوابط الاجتهاد في أمر ما...

من ضوابط الاجتهاد في أمر ما.
ربما يكون من المفيد والضروري التذكير بأن أي عدم مبالاة في أي عمل اجتهادي، في أثناء العمل في خدمة  ثورة الحرية والكرامة، باتكاء المفرط على القاعدة "من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد"؛ عدم المبالاة هذا لا ينبغي المرور عليه، بسرعة، بذريعة نيل المرء على الأقل على أجر واحد، ونعتبر أن المسألة قد انتهت.
في الحقيقة، إن عدم مبالاة المجتهد، حين يجتهد، لا يعني فقط  الوقوع في الخطأ فحسب، وإنما يعني، في جملة ما يعنيه، حرمان الثورة من اجتهاد مصيب ومثمر وبناء فيما لو لم تكن عدم المبالاة تلك. بل إن العمل الاجتهادي يحتاج إلى مزيد من التحري والجهد، والمشورة، أكثر بكثير من العمل بنص مُحكم، ولا سيما إذا كان أحاديّ المدلول.
صوبت سهمك كي تصيد أُرينبًا****فـــي وسط حشـــــد للأنام تسيـر
فنجا الأرينب، لم يُصـــب بأذيّةٍ****والسهم أصبح في الصدور يغور
إن اللامبالاة عند المجتهد، في تحري الأكثر صوابًا يعني أمورًا عدة:
1-   الأنانية، فلا يتعب نفسه في سبر غور الموضوع المعني، ما دام أنه سيحصل على أجر واحد على الأقل.
2-   عدم الحصول على النتيجة المرجوة من اجتهاد مُرتجل، فالقائد العسكري، مثلًا، حين يكون أمام أمر اجتهادي في تنفيذ عمل ما، وينفذه، على عجل، حسب ما يُملي عليه رأيه، دون تريث وصبر ومشاورة، سيجد نفسه وجنوده في موقف صعب، في الغالب، ومثله المتبرع بماله، حين لا يتحرى، بدقة، الجهة التي، إن وصل إليها ماله، أنفقته، فعلًا، بما يعود على الثورة ورجالها بالخير الوفير، لا يكون قد أدى، حق ماله، ولا ينفعه استئناسه بحديث يتكلم عن وقوع الصدقة في يد سارق أو بغي أو ... فهذا في حق المتصدق الذي بذل جهدًا ليضع صدقته في يد مستحقيها، ثم اجتهد فأخطأ.
3-   من حيث لا يشعر، يكون في عمله هذا أسوة لغيره في عدم المبالاة، ومن ثم تكثر النتائج غير الصحيحة من اجتهادات متسرعة وغير مدروسة.
4-   يفقد مصداقيته بين العاملين معه، فتكرار (اجتهاداته) الخاطئة يدفعهم إلى عدم الثقة به، ولننظر، كم حجم الكارثة كبيرًا، في مجموعة فقد أفرادها ثقتهم بقائدهم.
إن أول ما ينبغي أن يراعيه المجتهد هو:
1-   أن يتأكد من عدم وجود نص محكم فيما يجتهد فيه.
2-   أن يكون على علم وخبرة في الأمر الذي يتم الاجتهاد فيه.
3-   أن يبحث عن وجود حالة مشابهة سابقة، فيستأنس بها، ويستفيد من نتائجها.
4-   أن يستشير من يراهم أهلًا وذوي خبرة في الموضوع الذي يجتهد فيه، ويُجري موازنات بين الآراء المتعددة التي قدمها المستشارون، ويختار الأنسب منها، وألا يتفرد، حتى، بهذا الاختيار.
5-   أن يضع أمامه النتائج المتوقعة، عن كل اجتهاد على حدة، وينظر أيها أقل ضررًا وسلبية، أو أيها أكثر نفعًا وإيجابية، حسب الحالة، ويتم الاجتهاد بناء على تلك الدراسة.
6-   أن يراعي الظروف الزمانية والمكانية، وأحوال الناس الذين معه، فرب اجتهاد كان مجديًا في زمن ما ولم يكن كذلك في زمن آخر، والأمر ذاته بالنسبة للمكان، والأشخاص.
ومن الجدير بالتنويه إليه، أن المرء حين يُفرط في اجتهاده، من غير أن يتقيد بضوابط ذلك الاجتهاد، فهو، في الغالب، يكون أقرب إلى المساءلة أمام الله وأمام الناس، ولا تنطبق عليه قاعدة (من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب فله أجران).
نسأل الله أن يبصرنا بالأمور جيدًا حتى لا نندم عند الزلل نتيجة التفريط أو الإفراط. 


الجمعة، 24 أكتوبر 2014

قل للصِّغار ذوي الرؤوس الخاوية

قُـل للصِّغار ذوي الرؤوس الخاويـة
قُـل للصِّغار ذوي الرؤوس الخاويـة****حتـــّام ترضون الحيـاةَ الواطيـــةْ
ألقَـابـــــــكم ملّتْ صَغَـــارَ نفوسـِـكم****تلك التي مــــن كل فضلٍ عاريـةْ
مُنِــحَـــــتْ لكمْ ممَّن حَـسِـبـْتُم أنـهُــمُ****حــدبوا عــليــكمْ مثـلَ أمٍّ حانِـــيةْ
لقــد استخــــفـــوكم فأصبـحتم دُمـًى****ما فيكــمُ من ســـيـــدٍ أو داهِـيـــةْ
تشــكو القلانسُ إذ عــلتْ هاماتــــكم****وتقول: ما تحتي عقـــول بـالــيـة
ما فـــيكمُ شهـــــمٌ يلبي صرخــــــــةً****من حُـــرّة بُليتْ بخسـةِ طاغيـــة
أو آهــــــةٍ زفَـــرتْ بِــهــــا مكلومةٌ****سمعتْ بهــا أُذُنٌ بـــأرض نائيــة
لكنّــــكــمْ صـــمٌّ وبـُـــــكــمٌ ثــمّ عُمْـ****ـــيٌ عشــتُمُ همَـــلًا كثور السّاقيةْ
أيديــــكمُ في المنْـكـــــرات سخــــيّةٌ****لكنّـــها مغــــلولـــةٌ لِمُصــــابيـــهْ
أمسكتُــــمـوها عن يتــامى رُضــــعٍ****أطلقتــموهـــا في جيــوب الزانيةْ
وهمــومُـــكم مصبـــوبة في رقصةٍ****أو شهـــوةٍ أو في مجالس لاهيَـــة
وجبــــــــاهكم عفّـــرتمــوهــا ذلّــةً****للعـــمّ ســـامٍ فــي الليـــالي الخالية
خُشــبًا مُســنّــدة وقفـــــتــم عنــــده****يُــلـــقي الأوامــرَ فيـــكمُ متــوالية
هــذا عـــدُوّ فانْهــــضـــوا لقتــــالهِ****ما دام يأبـى العيش تحــت جناحيهْ
ومثيــلُه مَـــنْ لا يُطيـــع أوامِـــري****ويـــذمّ أقــوامًا أتتْــــــني جاثـيــــةْ
وسواهُمــا من راح يغـمـــزُ بابنتي****في أنّـها بنْــــتٌ بغِـــيٌّ غـــاويــــةْ
هــــذا وذاك وهــــــؤلاء وتـــلكـــمُ**** ممــن يُثــيرُ الرّعـبَ في أرجائيهْ
هيّــا استعـــدّوا وافهــمُـوني جــيدًا****كــونوا بجنــبي، دائمًا، وورائيــــهْ
أومــأْتمُ بِــرؤوســـكم أنْ ســـــيدي****جئْـنـــا إليــك بســرعــةٍ وطواعيةْ
فأْمُـــرْ تُطَــعْ واختر لنا ما تشتهي****فالأمْــر أمـرُك في الأمــور العاليةْ
تبـــًا لـكم، فلقــدْ غـــدَوتم مثل منْ****قد دلّ "أبْــرهةً" لهــــدم الغـاليـــــةْ
واليــــوم جــاء عـــدُوّكمْ متنكــــرًا****فــلْــذاتُكم يُلقـــيهــمُ في الهاويـــــةْ
يُغـــريكمُ بخـــنـــاجرٍ مسمـــــومـةٍ****طعنـَــاتُها بصــــدوركُم هي داميـةْ
مِنْ سُكْركُم، هلا صحوتُم كي تروا****آمــالَكم بمَــهـــبِّ ريـــحٍ عاتيـــــةْ
وتـــركتــمُ أطفـــالكمْ فــي ضيْــعةٍ****أقــدامُهم في أرضِ شــوكٍ حافـــيةْ
وعــــلى مــوائـــدَ للّــئــامِ تحــلّقوا****متضــورين، لهــم بطـونٌ خـــاويةْ
يبْـغـــون منهــم بيـــعَ كل فضيــلـةٍ****بلُقيـــمةٍ فيــهـــا المـــرارةُ باديـــةْ
أأمِـنْـــتُـــمُ ألا يُســــوِّدَ وجْـــهـَـــكم****أجيـــالُ تـأتي في القرون التـــاليةْ
أمْ إنـــكم هُـــنتمْ وهـــانــتْ فيكـــمُ****قِيـَـمُ الرّجولةِ والمعـــاني السّـــاميةْ
إنْ كان شهدٌ يُرْتجَــى منْ حنْـــظلٍ****فلتأمنــوا؛ لا...لن تُجزّ النــــاصيـةْ
لكــنّ هــــــــذا مثــلُ باسط كـفــــه****للماء يَـــرجــو ريَّ نَفْـــسٍ صادية
وتكــون خاتمـــةُ المطـــاف عليكمُ****ألا يُــــرى لكـــمُ بأرضٍ باقــيـــــةْ
الجمعة 30/ذي الحجة/1435 الموافق 24/تشرين الأول/2014