السبت، 30 أكتوبر 2010

الخاطرة الثانية عشرة

آداب التحدث بالهاتف
التحدث بالهاتف نعمة أنعم الله بها على عباده بهذا الجهاز العجيب.. ولكل نعمة من النعم آداب وضوابط للتنعم بها، فكما أن نعمة البصر يجب أن يحافظ الإنسان عليها صحيّا، ويراعي الآداب التي طلب الله من الإنسان أن يتقيد بها حين يستمتع بهذه النعمة فلا ينظر إلى محرم، ولا يستخدمها في مراقبة الآخرين للإضرار بهم.. ومثلها نعمة السمع، وكذلك الأنعام التي سخرها الله للناس هي نعمة، وقد وضع الشرع الحنيف ضوابط وآدابًا لاستخدامها، مثل عدم استخدامها لغير الغرض الذي خُلقت من أجله، وعدم تحميلها أكثر من طاقتها وعدم تجويعها أو تعطيشها..
وللهاتف آداب ينبغي مراعاتها.. من هذه الآداب:
أولاً: الاختصار في الحديث والاقتصار على اللازم منه؛ لأنه جهاز ضروري ربما يحتاج إليه غيرك لحاجة ماسة لحظة إشغالك له. فلا يُلجأ فيه إلى بحث أمور تستغرق زمنًا إلا لضرورة ملحة.
ثانيًا: يعتبر طالب المكالمة بمثابة طارق باب منزل، وفتح الخط من قِبل المطلوب بمثابة استجابة صاحب المنزل لطرق بابه.. فيبادر المطلوب بإشعار الطالب بأنه موجود بكلمة "نعم" أو "مرحبًا" أو غير ذلك وعندها يلجأ الطالب إلى التحية بقوله " السلام عليكم " أو بأي صيغة تحية لائقة، ثم يُعرّف بنفسه. وللأسف نجد كثيرين ممن يطلبون أحدًا بالهاتف يبادرون من يردّ عليهم بالسؤال: من أنت؟ ويحصل جدال...وهذا خطأ فعلى الطالب أن يُعرف بنفسه أوّلاً ثم يسأل حاجته وإن كان يُريد شخصًا بعينه يطلب التحدث إليه. وأن تكون لهجة المتحدّثَين عادية وخالية من كل ما يثير الدهشة أو الاستنكار.
ثالثًا: بعد الانتهاء من استخدام الهاتف يُستحسن بالمطلوب أن ينتظر الطالب حتى يُغلق الخط لأنه كما قلنا بمثابة المُضِيف.. والطالب هو الضيف فلا يغلقن بوجهه الباب قبل الخروج..فضلاً عن كون الطالب هو صاحب الحاجة فربما يكون قد نسي أمرًا فيتكلم به ما دام المطلوب فاتحًا للخط.
رابعًا: المحافظة على استمرار عمل الخط وعدم تعريضه للقطع ولاسيما إذا كان في التحدث به مصلحة عامة للناس.. فصاحب المؤسسة أو الشركة أو الوظيفة التي يحتاج الناس إلى الاستفسار عن أمور لهم فيها من خلال الهاتف يجب أن ينتبه إلى هذه النقطة، ولا يُعرض خطه للقطع.
خامسًا: الالتزام التام بالشروط التي وضعتها الجهات المسؤولة عن الاتصالات وبذلك يؤْمَن من حدوث خلل..
سادسًا: بالنسبة لغير المالك للهاتف ينبغي عليه استئذان صاحب الهاتف باستعماله، وفي هذه الحالة يفضل إعطاؤه فكرة عامة عن الحديث، ومع من سيتحدث من غير تفصيل..
سابعًا: قد يتصل إنسان خطأً بآخر.. ويرى الثاني على الجهاز الكاشف رقم المتصل.. وحتى لا يقع أي التباس ينبغي للمخطئ أن يوضح لصاحبه اللّبس الذي جرى حين الاستفسار ويعتذر منه إن كان الأمر وقع بالخطأ، وعلى الاثنين أن يتخاطبا بلغة مؤدبة وراقية.وألا يلجأ كل منهما إلى إساءة الظن بالآخر، فقد تحصل بعض التداخلات في الخطوط نتيجة خلل فني.
ثامنًا: قد يُبتلى بعض الناس بآخرين يتصلون بهم لمجرد العبث أو إضاعة الوقت أو لأغراض غير لائقة.. فيُستحسن في بداية الأمر أن يُرد عليهم بهدوء ويُبَيّن لهم خطأ هذا العمل، وأنهم هم أنفسهم لا يرضونه أن يحصل معهم.. وفي حال التكرار فلا بأس بأن تُخبر الجهات ذات الشأن لمعالجة الأمر.
تاسعًا: ينبغي على من لديه رقم هاتف لآخر ألا يُعْلِم به غيره إلا من بعد أن يستأذن صاحب الرقم، وهناك حالات تُقدر بقدرها فتُستثنى من هذا الشرط؛ كإعلامٍ عن أمر مهم واضح الأهمية، أو ما يراه من معه الرقم مناسبًا.
عاشرًا: ينبغي ألا يتأخر صاحب الخط من دفع ما عليه من رسوم لقاء استخدامه للخط كي لا تتراكم عليه، وكي لا يتعرض لقطع الهاتف عنه في وقت يكون في أمس الحاجة إليه.
وأخيرًا؛ إن من واجب المرء أن يشكر المنعم على نعمه، وشكر هذه النعمة تكون بمراعاة آدابها، واستخدامها بما يعود بالنفع عليه وعلى الناس.
الجمعة 14/11/1431هـ
محمد جميل جانودي.  

السبت، 16 أكتوبر 2010

الخاطرة الحادية عشرة


 حق الطريق (5)
بسم الله الرحمن الرحيم

في الخواطر الأربع السابقة تمّ عرض الحقوق الأول والثاني الثالث والرابع لمن يريد الجلوس في الطرقات وهي غض البصر،وكفّ الأذى، ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذه الخاطرة ستتناول الحق الخامس: 
 
خامسًا: إغاثة الملهوف وهداية الضّال: الملهوف هو المظلوم والمكروب، والإغاثة تلبية الاستغاثة، والاستغاثة نداء يطلب فيه المستغيث النجدة والعون والمساعدة للخلاص مما يعاني.
ولما كان مستخدمو الطريق في الغالب هم من عامة الناس، فاحتمال أن يوجد فيه مستغيث هو احتمال وارد ، ولذلك كان من حق الطريق إغاثة هذا الملهوف المستغيث... فإن كان قد تعرّض لظلم من شخصٍ غيره؛ كسرقة مال، أو ضرب باليد، أو شتم وسباب، أو منع له من المرور أو الوقوف في مكان عام لحاجة له ولا يؤذي بوقوفه أحدًا، وغير ذلك من أشكال الاعتداء والظلم، فإن من واجب الآخرين أن يعملوا على رفع مظلمته، مستخدمين في ذلك الوسائل المجدية والحكيمة.. وربّما يضطر الناس إلى التحقق من دعوى المستغيث بسبب ظلم حل به من آخرين في حال وجود لَبسٍ في الأمر.. فعليهم فعل ذلك وألا يتسرّعوا، ولكن من غير إهمال أو تسويف، ومن المُجدي في هذه الحالة الاتصال بالجهات الرسمية إذا تطلب الأمر ذلك..وقد يكون الملهوف مستغيثًا بسبب لا علاقة للآخرين به، كأن تكون سيارته قد توقفت لعُطل فيها، أو أن يكون قد أصابه حادث وأصيب بجروح أو حل به مرض مفاجئ أو غير ذلك.. فمن حقه على مستخدمي الطريق تقديم العون له في إصلاح سيارته أو نقله إلى المستشفى ... وفي بعض الأحيان قد يتردد بعضهم في الإغاثة خوفًا من أن يقعوا تحت طائلة المسؤولية وهذا خوف في غير مكانه..لكن عليهم إلى جانب الإغاثة اتخاذ الإجراءات التي من شأنها أن تُخليهم من تحمّل المسؤولية. وحين تكون النية صادقة فالله يعصم من كل سوء.. وتحسن الإشارة هنا إلى ضرورة كتابة أرقام هواتف الجهات التي نذرت نفسها لتلبية نداء أي مستغيث؛ كشرطة النجدة والمرور ومقرات الإسعاف.. وأن تتكرر كتابتها مابين نقطة وأخرى تبعد عنها مسافة محددة.. ومن وسائل الإغاثة وجود مراكز إسعاف أولية تهتم بالمصاب أولاً بأول ريثما يُنقل إلى المستشفى المعني بمعالجته. 
وهداية الضال واجب أيضًا، فالذي يطرق السبل، ربما يتعرض إلى الضياع، ويتيه في مداخلها ومخارجها، وفروعها وشُعبها.. فمن حق الضال على مستخدمي الطريق أن يُرشدوه ويدلوه.. وينبغي أن تكون دلالتهم كافية ووافية.. لا يشوبها أي لبس أو حيرة.. ورُبما يحتاج الأمر إلى مرافقة التائه إلى حيث يعرف طريقه إلى غايته..ومن المفيد أن يُرسم له مخطط يعينه على الوصول إلى بغيته.. ومن وسائل الدلالة والإرشاد اللوحات التي يضعها المختصون بالإشراف على الطرقات في أماكن متعددة .. وينبغي الاختيار المناسب لتلك الأماكن.. فلا يُترك موضع يُوقِع عابرَ الطريق في حيرةٍ من غير أن توضع عليه لوحة إرشادية، كما ينبغي أن توضع اللوحة الإرشادية قبل المكان المراد التحول إليه بمسافة تُمكن مستخدم الطريق من التحول إلى طريقه المنشود بيسر....كما تشمل الهداية تنبيه المارين إلى الأماكن التي يُمكن أن يتعرضوا فيها لأخطار كوجود انزلاقات أو منحنيات ذات تقوس كبير أو احتمال هبوب عواصف أو وجود حيوانات تعرقل العبور أو عدم وجود محطات تزويد العابر بما يلزمه من وقود لسيارته أو حاجات ضرورية له. ومن الهداية أيضًا وضع لوحات تُبيّن الجهات الأربعة، ولوحات تحدد جهة القبلة للمصلين، وربما من المفيد هنا أن نذكّر بجدوى تعليم الناس كيفية الاهتداء بالنجوم ومواقعها، وكذلك الاستفادة من معالم عامة في المدينة كالمساجد والمقابر، والاتجاه العام لنهر وغير ذلك. ومن الهداية كذلك توجيه من وقع في مأزق وهو يعبر الطريق للتخلص من ذلك المأزق.. 
تلك هي بعض الأمور التي يُطلب من مستخدمي الطريق مراعاتها في إغاثة الملهوف أو هداية الضال.. ويُقاس عليها كثير وكثير.. وإن مما لا ريب فيه أن تحقق ذلك بين الناس ينشر المحبة والاحترام فيما بينهم والعيش كأنهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وصلى الله وسلم على معلم الناس الخير.



السبت، 9 أكتوبر 2010

الخاطرة العاشرة

حق الطريق...(4)
في الخواطر الثلاث السابقة تمّ عرض الحقوق الأول والثاني الثالث لمن يريد الجلوس في الطرقات وهي غض البصر،وكفّ الأذى، ورد السلام وهذه الخاطرة ستتناول الحق الرابع: 
رابعًا: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكر؛ والمعروف:هو في المقام الأول ما عرفه كل الناس معرفة فطرية، في كل زمان ومكان.. والمعروف مفعول فهو يحتاج إلى فاعل...أما المنكر فهو نقيضه؛ إنّه مجهول غير معلوم... ولما كان الإنسان بفطرته يألف المعروف وينبذ المجهول (الإنسان عدو ما يجهل)، ففطرته –إن لم تَشُبْها شائبة، ولم يحدث لها أي انتكاس- فإنها تسعى إلى المعروف حبًا وعملاً وتنأى عن المنكر بُغضًا وتركًا..
فالإيمان بالله معروف، والإيمان بالرسُل معروف، والإيمان بالكتب المنزلة من عند الله معروف، والإيمان بالقدر معروف، ..وعبادة الله معروف، كل هذا معروف لأن الفطرة الأصيلة تتوائم معه، وتدعو إليه.. والصدق معروف، والأمانة معروف، والوفاء معروف، وكسب الحلال معروف، والبر معروف، والإحسان معروف، والكرم معروف، والحياء معروف، وقول الحق معروف، والقول الحسن للناس معروف، والصدقة معروف، ونفع الناس معروف، وإلقاء السلام معروف، والرد عليه معروف، ونصرة المظلوم معروف، وردع الظالم معروف، وطاعة ولي الأمر بالمعروف معروف، والجهاد لنشر العدل معروف، والتراحم معروف، والتواضع معروف، والتناصح معروف، والتزاور معروف، والحكم بما أنزل الله معروف، وكل ما تتقبله الفطرة السليمة وتستسيغه معروف...
ونقيض ذلك هو المنكر...فالكفر بالله أو برسله أو بكتبه أو بملائكته أو بقدَره منكر، والاستنكاف عن عبادة الله منكر، والكذب منكر، والغشُّ منكر، والخيانة منكر، والسرقة منكر، والفجور منكر، والعقوق منكر، والبخل منكر، وعدم قول الحق منكر، وإخلاف الموعد منكر، وخِذلان المظلوم منكر، والتكبر منكر، والتقاطع منكر، والتدابر مُنكر، والتناجش منكر، والتحاسد منكر، والبغي منكر، والظلم منكر، والفحش في أي شيء منكر، والتبذير منكر، والتقتير منكر، والنظر إلى الحرام منكر، والغيبة منكر، والنميمة منكر، وطاعة الناس فيما يُغضب الله منكر، وكل ما تنفر منه الفطرة السليمة وتأباه مُنْكَر..
والطريق ميدان فسيح، يغدو فيه الناس، ويروحون، يقفون وينتظرون، يبيعون ويشترون، يتسلون بالأحاديث، ويتعاتبون ويتلاومون، أو يُثنون على بعضهم بعضًا ويشكرون.. وفي الطريق أصناف شتى من الناس ؛ فيهم الغني والفقير، وفيهم المتعلم والجاهل، وفيهم القوي والضعيف، وفيهم الصحيح السليم المعافى والمريض المُبْتلى.. وفيهم ذو الجاه والمنصب وفيهم الذي من "عامّة الناس"، وفيهم الحليم والسّفيه، وفيهم العجول والمهول، وفيهم الكريم والبخيل.... وعليه فالطريق أولى مكانًا من غيره لأداء هذا الحق.. " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، والأمر يكون أنواعًا فهو إما التماس وإما طلب وإما رجاء ودعاء... وعلى مُستخدم الطريق أن يكون لديه من الحكمة وحسن التصرف اللذين يجعلاه يختار أي نوع يمارس مع الآخرين...وأي معروف أولى بالأمر به، وأي مُنكر أولى بالنّهي عنه.. فهو يلتمس ممن يناظره ويعادله عملَ معروف، أو اجتناب مُنكر، أما إن كان أدنى منه منزلة، ولهذا الدنو وجهة شرعية؛ كالابن مع أبيه، أو الطالب مع معلّمه، أو الصغير مع الكبير، أو أحد الناس مع ولي الأمر...فعليه أن يتلطف معه حين يطلب منه القيام بمعروف أو اجتناب مُنكر.. وإن كان أعلى منه منزلة فعليه أن يُضمّن ما يأمره به رقة وعطفًا وحباً.. وإذا اقتضى الأمر اتباع الشدة في ذلك فيُراعى فيها ألا تؤدي إلى ما لا يُرضي الله من قول أو عمل...
وطاعةُ أمرٍ بمعروفٍ تكون سهلة على النفس.. لأنها تنفذ أمرًا تحبه بالفطرة وتميل إليه...تمامًا مثل أن يأمر إنسان إنسانًا آخر بأن يكون ثوبه نظيفًا أو بأن يأكل من طعام يُحبّه ويشتهيه، أو بأن يزور صديقًا يودّه ويألفه... وإذا ما لُوحظ أيُّ تلكؤٍ في تلك الطاعة فإن مرد ذلك يكون لعلّة في الآمر أو المأمور، ويُعالج ذلك حسب الحالة...
وحين يقتدي مجتمع ما بالمجتمع الذي يُخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم أفراده، فعندئذ يتعاون الجميع بتوزيع المهام فيما بينهم، كل حسب طاقته وخبرته وموقعه، لإنفاذ هذا الحق الكبير، من غير تعدّ أو تنازع، فلا تبقى ثغرة إلا وتُسد، كلُّ ذلك يتمّ عن تراض وتفاهم..   
فإذا حصل ذلك في الطريق بات الطريق آمنًا، وأحس من فيه بالفرحة والسعادة... ووصل كل واحد إلى مبتغاه من استخدام الطريق من غير حيف أو تعطيل... وحينئذٍ يكون الناس قد ساروا في طريق تكوين خير أمة على وجه الأرض " كنتم خيرَ أُمّة أُخْرِجَت للنّاس تأمُرون بالمعروف وتنْهَون عن المنكر وتؤمنون بالله.."

وقفة عند خبر (3)

الإيمان بالقدر...
الجمعة جاء في موقع قناة الجزيرة يوم 2010/8/10 ما يأتي : "توصلت دراسة ألمانية إلى أن الإيمان بالقدر يساعد الإنسان على التعامل بشكل أفضل مع مسألة وفاة شريك الحياة."
إذا أصيب امرؤ بمصيبة فإنه يحزن ، وهذا الحزن الذي يعتريه أحد نوعين ، فإما أن يكون حزنا عاديا ، يظهر على المحزون بصورة واحدة أو أكثر... فقد يرتسم الحزن على وجهه ويقرؤه من ينظر إليه ، ويعرف أنه حزين.. وقد تأخذ الدموع تنهمر من عينيه... وقد تنطلق بعض العبارات أو الكلمات ، على لسانه ، تومي إلى أنه حزين..  وربما ينعكس هذا النوع من الحزن على طعام صاحبه أو شرابه أو نومه ولكن في حدود معينة لا يتجاوزها... وأما النوع الثاني من الحزن فشيء آخر ، فيه تتغير حالة المرء العادية ، فيصرخ ، نفسه ويلطم ، وينطق بكلمات غريبة ، ويتقلب في أطوار.. ولا يثبت على حال.. ويعيش دائم الاكتئاب.. ينطوي على نفسه ، ويخبئ في أعماقها عدوا من الوساوس والتهيؤات تأتي عليه رويدا رويدا... وقد تدفعه إلى الإسراع بالإجهاز على نفسه بالانتحار!!...
ونزول أحد النوعين من الحزن بالمرء يتوقف على إيمانه بالقدر... والقدر هو _ إن صح التعبير -- برنامج قد وضعه الله سبحانه وتعالى لمخلوقاته ، أيا كانت ، ومن قبل أن يبرأها ، يكون سلوكها في هذه الحياة وفقه..
وقدر الإنسان ، هو كل ما يعمله الإنسان من قبل ولادته إلى آخر لحظة من حياته في الدنيا ، سواء كان هذا العمل بالجوارح ممارسة ، أو أقوالا باللسان ، أو تفكيرا وحديثا في أعماق النفس... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله وكل في الرحم ملكا ، فيقول : يا رب نطفة ، يا رب علقة ، يا رب مضغة ، فإذا أراد أن يخلقها قال : يا رب أذكر ، يا رب أنثى ، يا رب شقي أم سعيد ، فما الرزق ، فما الأجل ، فيكتب كذلك في بطن أمه) [البخاري عن أنس بن مالك] فموضع ولادته ، وكيفية تلك الولادة ، وإرضاعه ، وطريقة ذلك الإرضاع ، وأكله ، وشرابه ، ونومه ، ويقظته ، وتقلباته وهو يقطع شوط الحياة ، ومرضه وشفاؤه ، وما يتعرض إليه من مسرات كغنى وزواج ورزق للأولاد والأحفاد ، واتخاذ أصدقاء ، وتدبير عمل الكسب والعيش ، وتحقيق ما يطمح إليه ويرغبه ويحبه ، كنيل درجات علمية ، أو مناصب اجتماعية ، وغير ذلك مما يسعده ويتوق إليه.. كل ذلك يناله وفق قدر موضوع له سابقا.. والأمر نفسه فيما يتعلق بالأحزان ، كفقر ، وعقم ، وندرة أصحاب ، وأصدقاء ، ومرض ، وموت قريب أو حبيب ، وجوع وعطش ، وعري ، ووقوع أضرار عليه في جسمه أو ماله أو ولده ، أو فشل في مهمة ، وغير ذلك من الأمور المحزنة...
وهذه الأمور (سراؤها وضراؤها) يعيشها المرء ويحياها كما قدرت... وفي كلا الحالين لا يمكن للمرء أن يحيد عن أي جزئية فيه أو يتجاوزها...
فالذي يؤمن بذلك ، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد رسم له طريق حياته من الولادة حتى الوفاة ، وتكون عنده معرفة صحيحة بالله وصفاته وأسمائه.. وأن الله سبحانه وتعالى يريد بالناس اليسر ، ولا يريد بهم العسر ، وأن رحمته وسعت كل شيء ، وأنه رؤوف بعباده ، لطيف بهم ، خبير بما يصلحهم... وأن ما قدره عليهم هو تقدير علم وإحاطة ليس فيه إكراه أو إجبار.. الذي يؤمن بذلك كله فإنه حين تحل به المصيبة ، ولو كانت مرة وقاسية ، يعلم أنها في نهاية الأمر لصالحه.. تماما كما يعلم المريض أن مبضع الجراح وإن كان حين إعماله في جسده سوف ينزف دمه ، ويؤلمه.. ويسبب صرخة تأوه يبعثها من أعماق نفسه.. إلا أن في ذلك خيرا كثيرا يتمثل في استئصال الفاسد من الجسم ، وتخليص البدن من أخطاره.. فتراه (أي المريض) يسلم نفسه للطبيب برضى وطمأنينة...
أما الآخر.. فينظر إلى الواقعة على أنه أمام عدو يريد أن يستنزف دمه ، ويزهق روحه ، ويعذبه.. فتراه ساخطا غاضبا يريد التخلص مما هو فيه.. وبما أنه لا حيلة له أمام من هو أقوى منه فيظن أنه قادر على ذلك بالهروب من واقعه إلى حالة غير مألوفة وغير عادية.. تتمثل في الاكتئاب والتصرفات غير المسؤولة  وربما تنتهي بإزهاق نفسه..
فالمؤمن بالقدر يملك نظرة بعيدة المدى تجتاز واقعه لتنفد إلى المستقبل فيراه جميلا ، وهذا الجمال ثمرة من ثمار تقبل ما أصابه يوما ما من مكروه أو ضرر.. فتراه مبتسما وهادئا وهو يتلقى المصيبة.. أما الآخر فنظرته تقف عند المصيبة ذاتها ، وكأن جدارا فولاذيا يحول بينه وبين الأمل بالخلاص ، واستبدال الحسنة بالسيئة... فيلتفت إلى يمينه فلا يرى إلا المصيبة ، وإلى يساره فلا يرى غيرها وكذلك تحيط به من فوقه ومن بين يديه.. فيصبح متقوقعا داخلها.. يضوى شيئا فشيئا وهي تحصره وتضغط عليه حتى ينتهي إلى مصير أسود والعياذ بالله.
ولقد بين القرآن الكريم أهمية الإيمان بالقدر وكيف أنه يجنب النفس أمرين إن بولغ فيهما انعكس عليها سوءا.. هذان الأمران هما : الحزن الشديد على فات شيء ، وثانيهما الفرح الشديد بما هو آت..
قال تعالى في سورة الحديد :[[مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرٌ ﴿٢٢﴾ لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴿٢٣﴾]]  الحديد : 22 حتي 23
فالأول (أي الحزن) يجعل النفس تصارع في بحر من الندم والتقريع لفوات خير كانت ترغب في نيله.. وفاتها ، وهذا الفوات ؛ إما بخلل في اتخاذ أسباب تحصيله.. أو لسبب مجهول بالنسبة لها.. والمؤمن بالقدر يبقى هادئا متزنا يتلقى هذا الفوات برضا ، جاعلا من كون الفوات بالسبب الأول درسا له حتى يتلافى التقصير والخلل فيما يأتي من مناسبات.. ويرجع الفوات بالسبب المجهول إلى حكمة يريدها الله سبحانه ، وهي في صالحه حسب ما ذكر أعلاه ، وفي كلا الحالين هو راض ومطمئن.
وأما الثاني وهو الفرح الشديد بما أتى النفس من خير ؛ فإنه يوقعها في مرضين خطيرين عليها ، أولهما الغرور والكبر وثانيهما : كفران النعمة ونكران الجميل.. أما الأول فغمرة الفرح الشديد التي تكتنف النفس من جميع جوانبها تقود إلى تورم تلك النفس وانتفاخها فتحس إحساسا كاذبا بأنها كبيرة وكبيرة... ، فيصيبها الغرور والكبر ويمشي صاحبها في الأرض مرحا وخيلاء... هذا ما حصل لقارون.. وأما الثاني فإن غمرة الفرح تلك تحجب النفس عن أن تذكر غيرها... وعندئذ لا تعزو ذلك الخير الذي أتاها إلى مصدره الأصلي.. بل تظن ظنا كاذبا أيضا أن هذا الخير هو من عندها هي ولا فضل لأحد فيه... وهذا ما حصل لقارون أيضا حين قال عن الخير الذي آتاه الله إيه (ٻ      ٻ  ٻ  ٻ     پپ  ... وكلا الأمرين يلقيان النفس وصاحبها في بئر الهلاك.. فيصبح منبوذا اجتماعيا ، بسبب غروره وكبره.. ويخسر أي خير في المستقبل بسبب نكرانه وجحوده...
قال تعالى في سورة القصص[[إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴿٧٦﴾ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿٧٧﴾ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴿٧٨﴾ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿٧٩﴾ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّـهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴿٨٠﴾ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ﴿٨١﴾ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّـهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّـهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴿٨٢﴾]]  القصص : 76 حتي 82
أمر آخر ينبغي التنويه إليه في مسألة (الإيمان بالقدر) أن أناسا يخطئون في توظيف هذا الإيمان في حياتهم ، فتراهم يخوضون في مغامرات خطيرة على النفس أو المال أو الأهل وأحيانا على الأمة.. متجاهلين أي سبب يمكن أن يجنبهم نتائج المغامرات تلك ، وهم يرددون قوله تعالى [[قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿٥١﴾]]  : التوبة : 51
ولو عدنا إلى السياق الذي وردت فيه هذه الآيات لوجدنا : [[إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ۖ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ ﴿٥٠﴾ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿٥١﴾ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّـهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ﴿٥٢﴾]]  التوبة : 50 حتى 52    
نجد أنها جاءت ردا على المنافقين الذين لا يرجعون الحسنة التي تنال المؤمنين ولا المصيبة التي تقع عليهم إلى قدر الله ، وإنما في حالة الحسنة يصيبهم الغم حسدا لما أصاب المؤمنين من خير ، ولو كانوا يؤمنون بالقدر لما اغتموا وعلموا أن تلك الحسنة نعمة من الله الذي يعلم أين يضعها ، وفي حالة السيئة التي تنزل بالمؤمنين من دونهم يفركون أيديهم فرحا لأنهم احتاطوا للأمر ويرجعون الفضل في عدم وقوع السيئة عليهم لأنفسهم...
هنا جاء تعليم القرآن للمؤمنين : قل لهؤلاء يا محمد ، إننا مطمئنون بعد أن نطيع الله بالأخذ بأسباب نيل الحسنة وأسباب دفع السيئة ، أنه لن يصيبنا من حسنة أو سيئة إلا ما كتب الله لنا لنا ، وهذا المعنى تؤيده القصة الكاملة في السورة عن موقف المؤمنين وموقف المنافقين من الجهاد... فالنفير في سبيل الله ، والجهاد بالمال والنفس ، وإعداد العدة أسباب لنيل الحسنة... وبالمقابل ؛ التثبيط ، والقعود ، والاستماع للمثبطين والمرجفين أسباب لوقوع السيئة... وقدر الله يأتي وفق حكمته سبحانه ، سواء كان نيل حسنة أو وقوع مصيبة وسيئة...
ولا يفهم من سياق الآيات أن المؤمنين لم يأخذوا بالأسباب ، واندفعوا إلى خوض المعركة مع أعدائهم وهم يرددون الآية الكريمة التي هي موضع الاستشهاد..
ويحسن الإشارة هنا إلى ما رآه بعضهم من كلمة (لنا) إذ قال : إن كل ما يصيب المؤمنين هو (لهم) وليس (عليهم) وهذا ما توضحه الآية التالية لتي تبين أن المؤمنين ينتظرون واحدة من حسنيين... النصر أو الشهادة والجنة...
وأمر ثالث يحسن التنويه إليه في مسألة الإيمان بالقدر.. وهو أنه إذا أوقع شخص أذى بآخر ترى بعضهم يسارع إلى إخلاء مسؤولية الأول مما تسبب من أذى للثاني بحجة أن ما أصاب الثاني هو قضاء وقدر... وهذا فهم خاطئ أيضا لأنهم بقولهم ذاك كأنهم يرجعون إلى الله ما حل بالرجل إرجاع قهر وإجبار لا إرجاع علم وإخبار.. وأن الأول بريء... ناسين أن القدر هو كتابة الله تعالى لما يفعل المرء وليس إكراهه على ذلك الفعل... كما في حديث "إن الله وكل في الرحم". المتقدم ، وهناك فرق بين خلق الله للفعل وبين جريان هذا الفعل على يد شخص ما باختياره الذي وهبه الله تعالى إياه... فالله سبحانه وتعالى يخلق الفعل ولا يكره أحدا على إنجازه ، وإن كان يعلم أن هذا الفعل سينجز من قبل فلان...
فالإيمان بالقدر ، وتوظيفه بالصورة الصحيحة ، يجعل الإنسان راضيا مطمئنا في حياته ، مهما تعرض فيها لمحن وابتلاءات.. فهي في نهاية المطاف خير له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عجبا لأمر المؤمن . إن أمره كله خير. وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر. فكان خيرا له).

السبت، 2 أكتوبر 2010

وقفة عند خبر(2)

وجعلنا الليل لِباسًا...والنهار معاشًا
الليل هو تلك الفترة من اليوم التي تغيب فيها الشمس عن الأرض،أي من غروبها مساءً إلى طلوعها صباحًا، وبعضهم قال: من غروبهَا مساءً إلى طلوع الفجر. ولما كانت الشمس هي مصدر الضوء الوحيد للأرض، ففترة الليل هي فترة ظلامٍ للأرض... وجعل الله سبحانه وتعالى فترة أوج الظلام من الليل (بين العشاء والفجر) فترة الخلود إلى النّوم، وهو وحده سبحانه يعلم الأصلح لعباده، وما يحتاجونه إليه:
 ﭧ ﭨ ﭽ                      الملك: ١٤
ولقد عبّر القرآن الكريم عن الليل بكلمات وأوصاف تتناسب تمامًا مع المهمة التي أوكلت إليه بالنسبة للإنسان..وهي (النوم)، والنوم هو الرقود، ويأتي بمعنى الموت..وهذا يعني التوقف عن العمل الذي كان يُمارَس نهارًا والخلود إلى الراحة...قال تعالى:
                   ﮤﮥ                  يونس: ٦٧     
  فكما أن الذي يعمل في الهاجرة، وتحت أشعة الشمس المحرقة، يأوي بين فترة وأخرى إلى ظلٍ يخيم عليه بسكينة وهدوء، حتى يلتقط أنفاسه ويعود إليه نشاطه، فيقفز إلى عمله ثانية بهمة عالية، ورغبة كبيرة..كذلك حين يُمضي الإنسان معظم نهاره في العمل الدؤوب.. فقد جعل الله له سكنًا آمنًا تتوفر فيه كل أسباب الراحة النفسية والجسدية، ليدخله ويتزود منه ما يجعله قادرًا على متابعة عمله في اليوم التالي بحيوية ونشاط...
وقد جعل الله سبحانه وتعالى ظلام الليل بيئة ملائمة ومناسبة لتحقيق تلك الراحة وشحن الإنسان (ماديّا ومعنويَا) ليغدو جاهزا للانطلاق في الغد إلى عمله... فإبصار النهار مناسب لما يكون فيه من عمل وجد... وظلام الليل مناسب لما يكون فيه من نوم وخلوة مع الخالق في بعض ساعاته... وبكلٍ من النوم والخلوة يشحن الإنسان نفسه ماديًا ومعنويًا..
وعليه فإبصار النهار، وإظلام الليل؛ ضروريان لاستمرار حياة نافعة وسوية على الأرض..فالأول لابتغاء فضل الله وإعمار الأرض بما ينفع الناس، والثاني لتعويض الإنسان ما يستهلكه من طاقة مادية أومعنوية ليستأنف مهمته من جديد..
قال تعالى:
                                               ﭡﭢ                                                        ﭸﭹ            ﭿ                                  القصص: ٧١ - ٧٣  
فالسمع والبصر معًا هما القوام الرئيس لأي نشاط للإنسان على الأرض. ويكون السمع على أوجه ويبلغ مداه في الليل؛ لتوفر الهدوء والسكون... والبصر يكون على أوجِه في النهار؛ لتوفر الضوء، وخروج المبصَراتِ من أماكن تواريها...وكأن الآيات الكريمة تنبه الناس إلى أن نجاح حياتهم في إعمار الأرض منوط بأسماعهم المرهفة وأبصارهم الحادة، وبهما، أي بالأسماع وبالأبصار، يحصل الإنسان على أعظم قدر من الاستفادة منهما بتعاقب الليل والنهار.. وهذا لا يتحقق بسرمدية أي منهما، ولقد عرف الإنسان منذ القدم أنه إذا أراد تحري مصدرٍ للسمع فيلجأ إلى الليل فإنه (أي الليل) في ذاك التحري خيرٌ من النهار، ونلاحظ في عصرنا؛ عصر التقنية الحديثة أن كثيرًا من الأجهزة التي تصلنا الأصوات بواسطتها يكون أداؤها ليلاً أفضل منه نهارًا...وكذلك الإبصار فهو في النهار أشمل وأوسع وأجدى... ومهما كانت المصابيح قوية وذات انتشار واسع فإنها لا يمكنها أن تحل محل ضوء النهار... هذا فضلاً عن أنّ لضوء الشمس مهامَّ أخرى مثل تمثيل غذاء النبات، واستخراج الطاقة من أشعة الشمس، والقضاء على العديد من الكائنات الضارة...
ولا يمكن أن ينوب ليل عن نهار، ولا نهار عن ليل في أداء المهام.... ومن ثمّ فيخطئ من يظن أنه يعوض عما فاته من نوم ليلاً بنوم في النهار.. ويُخطئ من يظن أنه يمكن أن يُنجز في الليل ما يلزم إنجازه في النهار..
هذا يدعونا إلى أن نقف عند الخبر الذي أورده موقع "الجزيرة" يوم الأحد في 17/10/ 1431هـ من أن عدم النوم في الليل، وإنجاز أعمال النهار فيه يسبب اضطرابًا في حياة الإنسان ويؤدي إلى ظهور أمراض خطيرة عنده:
جاء في الخبر: "كشفت دراسة طبية ألمانية عن وجود علاقة مؤكدة بين ارتفاع خطر إصابة النساء والرجال بمرضى سرطان الثدي والبروستاتا وعملهم ليلا أو تغييرهم نوبات دوامهم لفترة طويلة."
وأوضح المشرف على إعداد الدراسة رئيس مجموعة البحوث الطبية بجامعة كولونيا البروفيسور توماس أرين أن هرمون الميلاتونين لا يعمل إلا أثناء النوم في الظلام فقط، وله وظيفة طبيعية واحدة هي الاستفادة من الليل المظلم في تقوية الجهاز المناعي ووقاية الجسم من الأورام الخبيثة ومن بعض الأمراض.
وقال أرين للجزيرة نت: إن تجارب أجريت في إطار الدراسة على حيوانات تعرضت للضوء خلال الليل لفترة طويلة أظهرت وجود علاقة قوية بين النشاط الحركي في الضوء ليلا وتعطل هرمون الميلاتونين المعيق لنمو السرطان بالجسم.
نقف عند هذا الخبر ثم نسأل: من يدري، في قابل الأيام، بِما ستدفع إلينا المواقع والصحف والفضائيات من إضافات أخرى لأمراض وعلل ومشكلات تترتب على محاولة الإنسان لتغيير سنة الله فيما يخصه أو يخص الكون من حوله.. وهو ليس بقادر.. 
نقف عند هذا الخبر ونحن نتدبر قول الله تعالى:                       النبأ: ١٠ - ١١
واللباس هو ستر ووقاية لللابس وحماية له من الأخطار، واللابس هنا هو جميع المخلوقات التي يكتنفها الليل بأجنحته، ويُسدل عليها ظلامه...ومنها الإنسان.. وإذا كانت الثياب والريش تقي الإنسان من الحر والبرد، فإن لباس الليل يقيه من أمور كثيرة، قد يصل الإنسان إلى علم بعضها.. كما أشار الخبر.. فالليل بظلامه وحثه الفطري للإنسان على نوم بعضه يكون واقيًا من كثير من الأخطار التي تهدد الجسم..
وفي الليل خطا دفاع للجسم، فهو خط دفاع لكونه سكنًا (( وَحَعلَ اللّيلَ سَكَنًا)) الأنعام 96.  وهو خط دفاع آخر لكونه لباسًا.. فالذي يود الاستفادة من هذين الخطين عليه أن يستغل الليل كلّه من مبدئه إلى نهايته بما وجه الله تعالى من عمل فيه؛ كالنوم، وقيام الليل؛ بصلاةٍ أو دعاءٍ أو ذكْرِ أو تسبيحٍ أو عِْلمٍ أوجهادٍ.. وأما الذي يسخّر جزءًا من ليله في غير ما وجّه الله إليه فكأنّما هدم جدارًا من جُدُر سكنه، أو فتح ثغرة في الجدار فتدخل منها الأخطار التي تُحدق به...
وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: ((أطفئوا المصابيح إذا رقدتم ، و أغلقوا الأبواب ، و أوكئوا الأسقية ، و خمروا الطعام و الشراب ، ولو بعود تعرضه عليه )). صحيح الجامع .
وبإطفاء المصابيح إتاحةٌ لظلام الليل أن يخيم على النائم لتتحقق الفائدة المرجوة منه، بالإضافة إلى اتقاء شر حريق قد ينشب بسببها وغير ذلك.
فالحمد لله أولاً وأخيرًا على أن شرّفنا بالقرآن الكريم، ووجهنا فيه إلى ما فيه خيرنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة.     

الجمعة، 1 أكتوبر 2010

الخاطرة التاسعة

حق الطريق ... ( 3 )
في الخاطرتين السابقتين تم عرض حقي الطريق الأول والثاني ، لمن يريد الجلوس في الطرقات ، وهما : غض البصر ، وكف الأذى ، وهذه الخاطرة ستتناول الحق الثالث : 
ثالثا: رد السلام؛ السلام هو التسليم ، والسلام من السلم والسلامة ... وهي البراءة من العيب والنقص ... والنجاة من كل آفة .. والسلام اسم من أسماء الله الحسنى .. والسلام هو أيضا تحية أهل الجنة ورضيه الله لعباده المؤمنين ؛ تحية لهم في الدنيا .. ومن حق الطريق رد السلام ... ورده يقتضي وجود من يلقيه أولا ... وكأن السلام متفش في عموم الطريق .. يلقيه كل من فيه على كل من يلقاه ... وبذلك يصبح كل من يعبره أو يقف فيه أو يجلس فيه لحاجة ، في سلام دائم .. والمكان الذي يغمره السلام ، يحيا كل شيء فيه آمنا مطمئنا ... فمن حق الطريق أن يكون آمنا لا يروع من فيه ؛ عابرا كان أم واقفا أم جالسا ....
وفي أغلب الأحيان لا يعكر صفو الأمن والسلامة إلا زمرة من البشر ، ممن انحرفوا عن السليمة الفطرة ، وانقادوا الشيطان لوساوس ، فحين يبدأ الناس بعضهم بتحية السلام فهم يطمئنون من يسلمون عليهم بأنهم ليسوا من تلك الزمرة .. وأنهم يريدون استخدام الطريق معهم بجو مفعم بالسلامة والأمن ... فعلى المسلم عليهم أن يبادلوهم التحية بمثلها أو أحسن منها أيضا ، ويفهموهم أنهم مثلهم ينشدون السلامة لكل مستخدم للطريق ...
إلقاء السلام في الطريق والرد عليه يمثلان عقدا مبرما بين الطرفين على استخدام الطريق على الوجه الذي يجعله آمنا .. وكأن أحد الطرفين يقول للآخر : أعاهدك على ألا أدع شيئا يجعلك تحس بالخوف وأنت تستخدم الطري ... فكل ما يؤذي سأنحيه وأبعده ... وكل مصدر للقلق على النفس والجسد والمال لن يكون موجودا في الطريق ... وفي الوقت نفسه يرد عليه الآخر قائلا : وأنا أعاهدك على مثل ذلك وزيادة ...
وللسلام والرد عليه صور عديدة .. فعند التقابل يكون بطلاقة الوجه والابتسامة الحية والمصافحة المصحوبة بعبارات السلام المعروفة ... وإن كان عن بعد فيعبر عنه بإشارة باليد توحي بالتسليم على الآخر ومثلها حين الرد مع ابتسامة مشرقة تبدو على ثغري الطرفين .. وأحيانا يكون بإطلاق نغمة لطيفة خاصة لمنبه السيارة ، ويرد عليها بمثلها ... وأعرف رجالا حين يمرون في الطريق من أمام بيت صديق لهم ، أو له مكتب ، أو محل تجاري فيه يعمل ، وهم على عجلة أمرهم من ، فإنهم يلقون السلام على ذلك الصديق .. ويمضون .. آملين من الله أن يسخر من يرد عليهم لفظا أو معنى ....
ورد السلام يحمل في طياته الشكر لمن ألقاه ... فكأن الذي يرد يشكر صاحبه على البدء والمبادرة بتطمينه على سلامة الطريق وأمنه ... ولذلك كان الرد من الحق الواجب أداؤه لملقي السلام ..
ولنتأمل كم هو حجم السعادة التي تغمر قلب مستخدم الطريق حين يجتازه وهو آمن من أنه لن تأتي سيارة تجاوزت حدود السرعة فتصدمه .. ولن يجد من يعترض عليه طريقه ليسلبه ماله ومتاعه .. ولن يجد من يسبه أو يشتمه ... وهكذا ... لأن الأصل في كل مستخدم أن يكون قد سلم سلاما عاما أو خاصا على كل من في الطريق ..
ولأهمية أن يشمل الأمن والسلامة الطريق ؛ فقد جعله الله نعمة امتن بها على عباده : "وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة ، وقدرنا السير فيها ، سيروا فيها ليالي وأياما آمنين" ولقد طمأن الله نبيه موسى صلى الله عليه وسلم ومن معه أن الطريق الذي سيهيئه لهم في البحر هو طريق آمن لا خوف يمكن أن يأتيهم من لحاق فرعون بهم وإدراكه لهم ، أو الخوف من الغرق في البحر .. "ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف فيه دركا ولا تخشى"
وتأكيدا لضرورة أن يكون عابر الطريق في أمن وسلام فقد جعل الله أحد مصارف الزكاة لابن السبيل حتى لا يبقى قلقا على تأمين حاجاته الضرورية وهو في طريقه إلى أهله ، كي يصل إليهم سالما معافى .
فأمن الطريق وسلامة مستخدميه مطلب هام وحيوي ، وهو يتحقق بادئ ذي بدء بتفشي السلام بين الموجودين فيه إلقاء وردا .