الأربعاء، 2 أكتوبر 2019

مساءً.. هزني صوتٌ نعاه...

كثير من التعليقات على منشور بالأمس في ذكرى يوم وفاة والدي، رحمه الله، التي كانت في 1/10/1991م، والتماس الدعاء له ولأموات المؤمنين بالرحمة والمغفرة... أقول: بعض من التعليقات لمست منها طلبًا مني بنشر قصيدة رثيت بها الوالد، كان ذلك بالتصريح،حينًا، وبالتلميح حينًا آخر، وكنت قد رثيته يوم توفي بقصيدة، لكن لم تُنشر، لظروف ذلك الوقت، وتلبية لرغبات هؤلاء الأحبة، بارك الله فيهم جميعًا، وبرًا به، أنشرها اليوم في ذكرى وفاته الثامنة والعشرين، رحمه الله:
---------------------------------------------------------------------------
مساءً هزني صوت نعاه
مســـاءً هـــــزّني صــوتٌ نعـــاهُ===هــوى الجبـــل الأشــمّ فلن تراه
تلاشى الصّوتُ منْ حولي رويدًا===وأذكى الحزنُ في كَبِدي صـــداه
فوا أســفي على جــبَــلٍ عظيـــمٍ===ترنّـــح سفحُــه، وهــوتْ رُبــــاه
هوى العــلَمُ الذي عجزت أنـاسٌ===بلــوغَ ســفــــوحِه، أنّـى رُبــــاهُ؟
لقــد كانتْ تُصـــارعُــــهُ الرّزايا===فيصْــرعُها، وتبْــتســمُ الشّــفـــاهُ
يُعـــالِجُهــا بحـــزْمٍ بعـــد صبْــرٍ===فيذروهـــا، وقــــد شمَـختْ ذُراهُ
إذا حضــر المجــالسَ أكْــــرمُـوه===بـــهِ يــعـْـــلو المقـــامُ إذا أتــــاهُ
تُــزَيِّـــنُــــهُ خِـــلالٌ فـــاضــلأتٌ===ويرفَعُــــهُ، بتـــــكْريمٍ تُــقـــــــاهُ
عقـيدتُــهُ صفَـــتْ من كل زيْــغٍ===فيدعــو اللـــهَ، لا يـدْعو سِـواهُ(1 )
تقــيٌّ، صــــالحٌ، ورعٌ، مُـنـيْـــبٌ===إلى الرحـمــنِ، يسْـــألُــه رضاهُ
شجاعٌ، في الْوغى، ليثٌ، هصورٌ===وداعيــــةُ السّــــلامِ لِمـــن دعاهُ
فما عرف التّــقهْــقُــرَ في لِقــاءٍ===إذا يومُ الْوغــى دارت رحــاهُ(2 )
لـــهُ نـفْــــسٌ أبَتْ ضَــيْـمــًا وذلاً===وأشْهـــر سيفــــه، يفني عــــداهُ
لقد ذاقَــــتْ فرنْســـا منهُ مُـــــرًّا===وفـــي إذلالِــها كانَــــتْ مُنـــــاهُ
مِــرارًا كان يلقــاها، وحــــيـــدًا===فيهْــزِمُــها، ومـــا كــلّتْ يــــداهُ
له اسْــمٌ أرْعـب الأعـداء طُرًّا===وزيّــن سِفْــرَهم فـيما احتــواه( 3)
تـنــــامى ذكْـــرُه فـــي كلِّ حــيٍ===وفــاح، بِطيْــبِه، عطرًا، شـــذاهُ
مضـى، لا يبتغي إطْنــابَ ذِكْـــرٍ===ولــكِــــنَّ الْكــــرامةَ مُـبْــتـغــاهُ
فـلو أنّ اليَــراع يخـــطّ شيـــئًا===بـِمَــلْكِ يمينــه أبـــْدى سنـــاهُ(4 )
ولــــو أنّ الرواسي ذاتُ نُطـــقٍ===لقالتْ: هــهنــــا رسختْ خُـــطاهُ
ولو أنّ الْكهـــوف تقــــولُ شيئًا===لقالت: من هنــــا، مجْــدي بنــــاهُ
رُزئْتُ به، وكان الخَطْبُ صعبًا===عـلـيّ بِــأن يمــوتَ، ولا أراهُ(5 )
ولو أنّ الفـــداءَ يُعـــيــــد مَـــيتًا===حيـــاتي، كنْــتُ أُرْخِصُــــها فداهُ
ولــو أنّ الْبُـــكاءَ يــرُدّ روحـــًا===لكنْتُ عليـــه أبْـكَى مَــــنْ بكـــــاهُ
إذا لـــمْ أرْثــــهِ بــبليْــغ قَـــوْلٍ===فحسبــــي أنّ قَـلْـبــــي قـد رثـــــاهُ
أبي، يا مَنْ فُجِعْـتُ بــه، وإني===أؤمِّــلُ أنْ أصــيْـــرَ إلى حِمــاهُ(6)
أبي، قــد كُنْــتَ لي أمَلًا ونورًا===ونِــبْــراسًا أسـيــرُ عـــلى هُــــداهُ
أبي، أوْدَعْتَ في صدري يقينـًا===ونـــورًا، لا يُفـــارقُــــني ضِيــــاهُ
غــرَسْتَ بِـمُـهْــجتي حبًا كبيرًا===لِتَــنْــزيْــــلِ الْحكيْــــمِ ومَــن تـلاهُ
أبي قــد كنْتَ بـحرًا من حنانٍ===وبـــرّا بالصّـديْـــقِ ومَن جفـــاهُ(7 )
تحمـّلْتَ الصّعابَ،وأنتَ راضً===بِحُــكْـــــمِ اللـــه فيمــا قد قضــــاهُ
صبرت على الفراقِ وأنتِ شيْخٌ===ويعْجـزُ عنه جَــلْدٌ في صِبـــاهُ(8 )
إذا المولى الكريـــمُ أحبّ عبْــدًا===أحـــلّ بــــه اخْتبـــارًا وابْتـــــلاهُ
أبي، إنْ غِـــبْتَ عنّي يـا حبيبي===فطيــفُــك في فُــــؤادي مُنْـتَــهَــاهُ
يتيْـــمًا قد غـــدَوتُ، وإنّ يُتْـمي===مــديْــــدٌ، مــذْ فـقـــدْتُــكَ مُبتــداهُ
يتيـــمٌ، إنّــمــا يُـتْــمــي مـــريرٌ===تجَـــرّعـــه فــــؤادي واحْـتســـاهُ
ولـولا نِـعْــمةُ الإيْـمانِ أضْحى===فــــؤادي فـــارغًا مِـــمّـــا اعْتراهُ
ألا يـا ربّ فارْحَــمْـهُ وأوســـعْ===لــه رِمْــسًـا وحــــقّـقْ مُـشْــتَــهاهُ
-------------------------------

(1) شـهدته، مرارًا، حين كان يسمع أمي تنطقُ بما درج على ألسنةِ بعض الناس، من عباراتٍ، فيها دخن، كان يُصحح ذلكَ بحزم، مثال ذلك؛ لو أنّ طفلًا سقط على الأرض، فكثيرًا ما يُقال استنجادًا: يا نبي...أو يا خضر!! فيقول: قولوا: يا الله، ولو أنّ شخصًا قال: لولا فلان لما تيسر أمرنا، فيبادر إلى تصحيح مقولته، ويقول: قلْ: لولا الله...وهذا الأمر كان لا يمل منه، حتى ولو تكرر كثيرًا...وكان شديد اليقين بأنّ الشدّة والحروب لا تميت أحدًا، بل يعتقدُ جازمًا أن للإنسان أجلًا محتومًا سيبلغه، مهما اعترضه من عقبات، وكان يكشف، أمامي، عن بعض المواضع في جسمه، وقد أُصيبت بإصابات بليغة في أثناء المعارك إبّان الاحتلال الفرنسي لسورية، ويُعقبُ، بعد أن يُرِيَني إصاباته تلك بقوله: "ومع ذلك؛ انظر كيف تراني أمامك حيًا أُرزق، في صحّة وعافية بحمد الله، ثم يتابع: تصوّر أني قد حُكِمَ عليّ بالإعدام، ويوم التنفيذ جاء الأمر بإيقافه، وإعادة محاكمتي...لأن أجلي لم يحن بعد...
(2) سمعت من عدة أشخاص ما يفيد هذا المعنى إذ لمسوا ذلك عيانًا، ومنهم سالم رزق "أبو خالد"، رحمه الله.
(3) حدّثني، رحمه الله، أنّه حين ألقى الفرنسيون القبض عليه، وأُودِع السجن، في حلب، كانَ يُستدعى للتحقيق معه، من قبل جنرال فرنسي، ربما فهمتُ منه أن اسمَه غوبو، فقد كان الجنرال يفتح سِجِـــلّاً كبيرًا، وقد رُصِّعتْ زواياه بقِطعٍ نُحاسية صفراء، فيفتح على الصفحة الخاصّة به، ويتلو عليه جميع الأعمال التي هو متهم بها.
(4) بعد الاستقلال، جاءت إلى القرية لجنة وسألوا عنه، وحين قابلوه بينوا له أنهم يريدون أن يدونوا عنه، ما جرى معه في أثناء مقاومته للاستعمار الفرنسي، فحدثهم بعضًا مما يحسب أنه يفيد، بوجه عام، ورفض أن يُسجل له اسم في ذلك، ورفض أخذ صورة له، وحين سألته: وما الضير؟ قال: يكفي أن يعلم الله عملي...
(5) سبّب ذلك الغربة القسرية التي فُرضت عليّ وعلى كثيرين من أمثالي سنة 1980م.
(6) أي أن تنتهي الغُرْبــةُ على خير، وأتمكّن من السّفر إليه، والعيش في جواره، وتقديم البر إليه ولوالدتي.
(7) كان، رحمه الله، حريصًا على أنْ يُعرّفنا على أصدقائه قدر الْمُسْتطاع، والذين يتعذر تعريفنا عليهم عيانًا، يُحدّثنا عنهم، ويُعرّفنا على أسمائهم وبلدانهم..، ويطلبُ منا احترامهم وتوقيرهم، فأذكُر ذات مرّة كنت معه في حلب ولم يتجاوز عمري الأربعة عشر عامًا، فأخذني إلى زيارة صديق له، اسمه: محمد سعيد الأظن، من قرية الدّانا..وأخذ يُحدثني عنه في الطريق إلى أن وصلنا منزله، وكان استقبال الرجل لنا لا يُوصف من كثرة الحفاوة والتكريم، وغير ذلك كثير. أرجو أن أتمكن من الحدسث عن هذه الخصلة فيه بإسهاب، في غير هذا الموضع.
(8) كان في الثمانين من عُمره، حينَ أُجْبرنا على حياة الغربة بعيدًا عن وطننا الغالي، وبقي طيلة حياته يُعاني من مرارة هذا الفراق
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
=======