الجمعة، 26 يوليو 2013

وقفات مع يوم الفرقان


وقفات مع يوم الفرقان

سمى الله تعالى يوم معركة بدر التي وقعت في مثل هذا اليوم من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة "يوم الفرقان" ولعل المرء يتلمس بعض الإيحاءات من هذه التسمية الربانية لهذا اليوم العظيم:

(1)               كان فرقانًا بين هدفين، هدف مادي بعيد عن إظهار لقوة الحق، وكسر لشوكة الكفر والظلم، فقد خرج المسلمون في البداية لأخذ ما اغتصبه كفار قريش من أموال المهاجرين واستخدموه في تجارتهم لاستجلاب أرباح لهم، وكان أبو سفيان أمير قافلة التجارة تلك، ولم يكن في خاطر المسلمين أن يتحول خروجهم، فيما بعد، إلى مواجهة بينهم، على قلة عددهم وعدتهم ، وبين جيش كبير نسبيًا أعدته قريش إعدادا تامًا، بعد أن أخبرهم أبو سفيان بأمر اعتراض القافلة من قبل المسلمين. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يفرق بين الهدفين، هدف قريب يتمثل في تحصيل المال والمتاع المغتصب واسترجاعه، وهدف عظيم يتجلى في ترسيخ دين الحق، وإعلاء كلمة الله، والبدء في وضع اللبنات الأولى في بناء صرح دولة العدل، قال تعالى: ((وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ))

(2)               وكان فرقانًا بين عقيدتين للقتال، قتال واحتراب داخلي لم يُقره الإسلام ولم يرض به، بوجه عام، ولم يأذن لرجاله أن يمارسوه، مهما تعرضوا لأبشع أنواع الظلم، وإنما أمرهم وقتها بالصبر والثبات، وبين قتال بين فرقين متمايزين، أحدهما لواؤه راية التوحيد وهدفه نشر العدل والحق وتحقيق الكرامة لناس، كل الناس، قال تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ" والآخر لواؤه راية الشرك ويعمل على ترسيخ الظلم والفساد.

(3)               وكان فرقانًا بين مبدأين لطريقة التعامل مع الأسرى يومئذ، وقد كاد أن يهلك أصحاب أحدهما لولا لطف الله تعالى ورحمته. فريق تحركت في نفسه كوامن الرحمة العادية ومؤثرات وشائج القرابة والدم، فقبل الفداء، وفريق تحركت في نفسه كوامن الرحمة العامة الشاملة التي تتمثل في اتخاذ كل ما من شأنه ترسيخ للعدل والحق، الذي لو تم لعمت الرحمة جميع الناس، ولساد العدل بينهم، وانتفى الظلم...فميز يوم بدر بين المبدأين، وعاتب القرآن أصحاب الأول عتابًا شديدا، وزكّى أصحاب المبدأ الثاني، ولو كان في الطريق لتحقيقه بعض الآلام ...

(4)               وكان فرقانًا بين نظرتين عند الناس في المشاركة في معركة الحق مع الباطل، نظرة اتكالية، تثبيطية، سلبية، كتلك التي كان عليه أتباع موسى عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل حين طلب منهم نبيهم أن يدخلوا الأرض المقدسة، وهذا الدخول يحتاج إلى إرادة، وعزيمة، وخطة قتالية، ومشاركة فعالة، فما كان منهم إلا أن احتجوا بوجود قوم جبارين ظالمين فيها، ولم يستجيبوا: "قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ" وبين نظرة إيجابية تتدفق حيوية وإقبالاً وعزيمة ومضاء كتلك التي ظهرت من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين أخذ يستشيرهم في دخول المعركة فقالوا: " فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا الى بَرْك الغِمـاد لجالدنا معك من دونـه حتى تبلغه".

(5)               وكانت فرقانًا بين مفهومين للطاعة عند الجندي، بين طاعة عمياء، لا يملك الجندي أن يناقش أو يسأل أو يعترض، على قائده حول أي فكرة أو خطة تتعلق بالقتال، يسير على فكرة (نفذ ثم اعترض) وعمليا لا يجرؤ على الاعتراض، وبين من يقف أمام القائد الأعلى ليخاطبه بثبات ورباطة جأش، كما وقع مع الحباب بن المنذر حين سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المكان الذي نزلوا فيه ( يا رسول الله، أهذا منزل أنزلكه الله لا نملك أن نتقدم فيه أو نتأخر أم هو الحرب والمكيدة؟" فقال له: "بل الحرب والمكيدة" فأشار إليه حباب بالنزول في مكان آخر، ونفذ القائد ذلك بسرعة.

(6)               وكانت فرقانًا بين نموذجين للقادة، نموذج لقادة متعجرفين، متكبرين، أخذ منهم الصلف والاستعلاء كل مأخذ، يُذيقون من هم دونهم أشد العذاب، وبين نموذج من القادة العظام، يأتي على رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ضربا مثلاً أعلى في حبه لأصحابه وحبهم له، وفي تواضعه الشديد لهم من غير تمييز...يتمثل ذلك في وقوفه صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، قبيل بدء المعركة، قائلًا لهم: من كان له عندي مظلمة فليأت وليستقد مني ... فقام أحد أصحابه وقال أنا يا رسول لله: فقال له: وما ذاك؟ فقال له: حين كنت تسوي الصفوف بعود معك، وخزتني فأوجعتني، فكشف صلى الله عليه وسلم عن جسده الشريف وقال له: استقد مني يا أخي، فما كان من الرجل إلا أن أكب على جسد الرسول صلى الله عليه وسلم مقبلاً، فعجب الرسول وأصحابه من ذاك، ولما استفسر منه النبي صلى الله عليه وسلم. قال له: أحسست أني سأقتل اليوم يا رسول الله، فأردت أن يكون آخر عهدي في هذه الدنيا أن تمس بشرتي بشرتك.

(7)               وكان فرقانًا بين نظرتين شاملتين للحروب، بين حرب تكون بدافع النزعة العصبية لقبيلة أو عشيرة أو غير ذلك وبين حرب تكون لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، ونشر للعدل بين جميع الناس، فاعتبر الأولى تدميرية مفسدة وحالقة للخير، واعتبر الثانية بنّاءة، مصلحة، تعمل على إسعاد الناس أيا كانت أصولهم وانتماءاتهم.

(8)               وكان فرقانًا بين من شهد "بدرًا" وبين من شهد أيا من المعارك التي جاءت بعده، فكان للبدريين معاملة خاصة، ونظرة مميزة، لم يحظ بها غيرهم. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل شهد بدرًا، لكنه عمل ذنبًا كبيرًا وصل إلى درجة اتهامه بالخيانة من قبل بعض الصحابة " لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم"!..

تلك هي بعض ما يُستوحى من تسمية يوم بدر بيوم الفرقان. أسأل الله أن ينفعنا بها جميعًا. إنه سميع مجيب. 

الجمعة 17 رمضان 1434 الموافق 26 تموز 2013

محمد جميل جانودي