الاثنين، 8 أغسطس 2011

شهيد النّصرة


بسم الله الرحمن الرحيم
شهيد النصرة..
كان عُمُرُ الفتى عامر بزازة حوالي ثلاثة عشر عامًا حين وافت المنية أباه بدر الدين في مدينة الرياض... الذي كان لي سابق معرفة به، رحمه الله،... ذهبتُ إلى بيته في السليمانية لتقديمِ العزاء... كان كثيرون من الحاضرين يتفرسون في وجه الفتى الصغير... ويُتْبِعون نظراتِهم بعباراتٍ تكاد تكون متقاربة، لفظًا ومعنًى...كقولهم (( ما شاء الله .. يبدو عليه أنه قادرٌ على حمل الأمانة، وأن يكون خير معين لوالدته في تربية أبنائها))...
وانتقلت الأسرة إلى حي المزة في دمشق...وأخذت الأيام تمر... ومن خلال مرورها كانت تجعل من الفتى عامر إنسانًا آخر...نعم لقد شبَّ الفتى.. وأخذت تشبُّ معه القيم التي غرسها فيه أبوه... ورسختها أمه في أعماق نفسه... واستطاع بعد تلك السنين أن يكون عند حسن ظن أولئك الذين تفرسوا في وجهه يوم العزاء.. فحقق لهم فراستهم.. وأصبح الساعد الأيمن، بل رَجل الأسرة الأول الذي يُشارُ إليه في كل ما يحتاجه البيت... وكانت أمه فخورةً به؛ لأنه أتقن الدرس الذي لقنته إياه... فأدى واجبه خير أداء....
ولكن كثيرين ممَّن كانوا يعرفونه ويتابعون مسيرة حياته بعد وفاة أبيه... لم يكونوا يدركون أن واجبًا آخر ينتظر عامرًا، وهو يريد أن يُؤديه بإتقان... واجبًا لا ينفك عن واجبه الأول، بل يلازمه ويسير معه... كيف لا؟ وقد عاش دواعي ذلك الواجب يومًا بيوم، وساعة بساعة.. عاشها حين كان مع أبيه في الرياض... وما وجود أبيه في الغربة، وولادته هو فيها؛ إلا واحدًا من تلك الدواعي الملحة للإحساس بذلك الواجب... وأخذ هذا الإحساس يكبر في نفس عامر يومًا بيوم ولاسيّما حين كان يرى أقارب له قد حُرموا من وطنهم، الغالي على قلوبهم، من غير سبب... الوطن الذي ولدوا فيه، وترعرعوا على ثراه، وشاركوا في بناء أمجاده.. هم وآباؤهم وأجدادهم... رآهم عامر وقد حرموا من استنشاق هوائه... والتظلل بسمائه... واستكمال بنائه... ثم نظر وإذ به يجد أن الذين تولوا كبْر ذلك هم الذين فرطوا في حقوق الوطن...على المستويات كافة... وعاثوا فيه فسادًا... فجاشت نفس الفتى.. وأخذ الدم يغْلي في عروقه...
ولم يكن حاله بعد أن عاد إلى دمشق...بأفضل مما كان عليه في الغربة.. لقد ألفى نفسه وسط غربة أخرى!! وربما تكون أقسى وأمرّ من الأولى... تلفت حوله.. فوجد قلّةً من النّاس.. بطونُهم متخمة، ويتنعمون بقصور شاهقة، وسيارات فاخرة... ووجد مقابل ذلك فقرًا مدقعًا، وأكواخًا تعبث بها الريح، وأقدامًا حافية تمشي على الشوك، باحثة عما يقيم أودها... وهذا حال الأكثرية الساحقة من الناس...
وتلفت حوله فوجد أفواهًا مكممةً، إلا تلك التي تُمَجِّد صاحبَ الشأنِ والجاه، ومن هم في فلكه يدورون... وأيادي مكبلةً، إلا إذا أرادت أن تصفق للرمز الأوحد (الأبدي)....
ثم بنظرة لا تحتاج إلى تدقيق.. رأى حقائق تُطْمَس، ودلائل تُزَوَّر، وشعارات ما أن تغادر أفواه قائليها إلا وتصبح هباءً، تعبث بها تيارات الهواء يمينًا وشمالاً...وقرأ بيانات سُطّرت بأيدٍ ملطخة بدماء الأبرياء، ومضمونها لا يساوي الحبر الذي كُتبت به... وأكثر ما لفت انتباهه، وأثار حفيظته ذاك التخوين لكل من ليس على رأي الحاكم بأمره....
رأى ذلك، وسرعان ما قفزت إلى ذاكرته قصة جرت معه أول قدومه إلى دمشق، حين كان في الصف الأول الثانوي، عندها قام مجموعة من الطلاب بكتابة شعارة مناهضة للسلطة، فما كان من رجال (الأمن) إلا أن بادروا بالقبض على مجموعة من الطلاب منهمين إياهم بأنهم فعلوا ذلك... واستمر التحقيق معهم مصحوبًا بألوان من العذاب والاضطهاد ولكن الطلاب لم يعترفوا بما اتّهموا به... رأى الفتى عامر ذلك فكبر في صدره أن يرى زملاء له تحت الإهانة والتعذيب... فانطلق إلى رجال الأمن ليعترف بأنه هو الذي كتب تلك العبارات... ونجّى زملاءه من قبضة رجال (الأمن).. ولاقى مقابل ذلك ما لاقى.. فحر تذكره لتلك القصة كمون الشجاعة والإيثار في نفسه... 
همس مع نفسه... ما العمل؟ وبعد صراع مرير معها تشجع ليهمس في آذان بعض أترابه، وأصدقائه الهمسة ذاتها.. ما العمل؟ فعلم أن أصحابه يعانون ما يعاني... ويتساءلون كما يتساءل.. ما العمل؟
لكنه لم يجد جوابًا ؛ لا من نفسه؛ ولا من أصدقائه...ولم يزده ذلك إلا حيرة وتحرقًا وغليانًا...  
وبقي كذلك إلى أن سنَحت له الفرصة حين بزغ فجرُ يوم الخامس عشر من آذار لسنةِ إحدى عشرةَ بعدَ الألفين ... يومِ انطلاقِ الثورة السوريةِ الأعْجُوبة، على يدِ  شباب من أترابه... يعانون ما يُعاني، ويُحسُّون بما يُحِسّ... عندئذٍ وجد نفسه قد أفلتت من عقالها... وأن ذاك المرجل الذي كان يغلي في أعماقها قد وجد له متنفسًا... فانطلق كالأسد الهصور... جنبًا إلى جنبٍ مع أسود وطنه.. وهتفوا بصوت واحد (( نريد الحرية)) لأنهم عرفوا أن أصل كل ما عانوا وكابدوا من قهر وظلم هو فقدهم للحرية.... ولكن ذلك لم يُرض من تعَوّد أن يكون هو الحر فقط من بين الناس... فسلط عبيده على كلّ الذين رفضوا أن يكونوا عبيدًا إلا لله... رأى عامر كل ذلك... رأى إخوانًا له يقتلهم رصاص أطلقتْه أيد غادرة لئيمة... رصاصٍ كان أبوه قد دفع ثمنه وهو في الغربة، ولكنه ما كان يعلم أن هذا الرصاص سيقتل فلذة كبده... وفلذات أكباد نظرائه من أهل سوريا النّبلاء... صحيح أن والده كانت تمر بذاكرته وقائع مرة... ولكنّه ظن أن النفوس قد تغيرت، وأنّ الآخرين قد غدوا مثله في الصفح والتسامح ونسيان الأسى؛ مُلقيًا في بحر النسيان المثل الذي كثيرًا ما سمعه من عجائز الحي ((الأسى لا يُنسى)) وما علم أنه قد أخطأ في ظنه ذاك..
رأى عامرٌ كلَّ تلك الممارسات الوحشيةِ.... فعاد المرجل في نفسه أشد غليانًا...وأخذ ينظر إلى اليوم الذي لا ينطلق فيه هاتفًا ((أريد حريتي)) على أنه يوم قد ضاع من عمره سُدًى... ولذلك لم يكن يكتفي بأن يهتف بذلك في حيه أو مع من حوله من أصحاب وأقارب... بل أخذ ينتقل من حي إلى حي بدافع النصرة والتآزر... فسوريا كلها عنده ميدان للنصرة والجهاد..وكلمة الحق تصل السلطان الجائر أينما كان موقع قائلها...ودأب الشاب على ذلك حتى حان اليوم المنشود...واليوم الموعود!!([1] )
 المنشود منه هو ليزيّن صدره بوسام الشهادة...والموعود مع ربه في جنات الخلد... فأتته رصاصة من قناص قصده، وكان يصوب مع الرصاصة كل ما يحمل من حقد دفين، له ولكل من يأبى أن يكون عبدًا إلا لله... وارتقى بشهادته إلى عليين.. ومضى ليعيش في الملأ الأعلى بعيدًا عن الوحل والطين..
مضَى كالّليثِ في طلبِ المَعَالي      ويَـبْذلُ مَا لديْــــــــــــه مــــنَ الغَـوالي
تَحَـــــــــــــدّى البَغْـيَ والأشباحُ تَرْمِي      عَلَـيْــــهِ جَمْـــــــــــــرَ أحقَــــــــــــــادٍ خَـوَالِ
تبَـسّــــــــــــــم ضَاحِكًا لمّــــــــــــــــــــــــا أتتْـهُ       رصَاصَةُ غَـــادرٍ نَذْلِ الخِصَـالِ
وقالَ امْضُوا بثَورتِــــــــــــــكُم إلى أنْ       تدُكّوا مــــــــــا بَـنـاهُ أبُـــــــــــــو رُغَــــــالِ
ومُوْتُوا فــــــــي سبيلِ الحَـــــقِّ حَـتّى       تُرَى هامــــــــاتُكم فَـــــــوْقَ الجِبَـــــــالِ
ألا تبّـــــــــاً لِعَيْـــــــــــــــــــــشٍ في صَغَــارٍ       بهِ يَحْيَـــــــــا الْوَرَى تَحْـــتَ النّعَـالِ
فهــــــلْ مِنْ مُبْـــــــــــــــــلِغٍ أُمّي كـلامـًـا       فَصِيْـــــــحـًا لا يَمُتّ إلى الخَيَـــــالِ
بِأنّي فِيْ رِحَــــــابِ الْخُـلْـــــــــــــدِ أحْيَـا       كَريمًا عِنْدَ ربّــــــي ذِي الْجَـــــــلالِ
وعَامِـــــــــرُ بالشهـــــــــــــــادة قد تحــلّى       وزُيِّــــــنَ بِالْبَـــــــــــهَـاءِ وبِالْجَــــــمَــــــــــالِ
فيا أمّـــــــــــاه لا تأسي وكُــوْنِـــــــــــــــي       خُنـاسَ العَصْرِ صَبرًا في النِّزَالِ
وقُولِي لِلأَحِبّـــــــــةِ مِـــــــــــــــــنْ وَرَائِـــي       دَمُ الأحْــــــرَارِ مَـهْـــــــرٌ للمَــــــــــعَــالِي
بـهِ تُرْوَى غِـــــــراسُ الْمَجْــــــدِ دومًا    ـ   تُسطّـــــرُ فيْـه ملحَمَــــــــةُ الرّجـــــــالِ
مضى وهو يحمل إلى أبِيْهِ جائزةً؛ هي أثمنُ وأغلى ما يقدَّم من ولدٍ إلى والده... أما أمُّه الصابرة؛ فاحتسبتْه عندَ ربِّها وهي تعلم أن لها نصيبًا وافرًا منْ تلك الجائزة يوم تلقَاه... فهنيئًا لأبي عامر ولأم عامر بابنهما الشهيد... وهنيئًا لكل أبوين قدما فتًى كعامر شهيدًا على طريق التحرر من عبودية العباد إلى عبودية ربّ العباد....
محمد جميل جانودي


([1]) استشهد رحمه الله يوم الأربعاء 3رمضان 1432هـ.

الاثنين، 1 أغسطس 2011

الثورة...ورمضان

الثورة... ورمضان
شعر/محمد جميل جانودي
أسْرعْ حَبِيْبِي فَقَلْبِيْ كادَ يَنْفَطِـرُ   شَوْقًـا إلَيْكَ ودَمْعِيْ سَالَ يَنْهَمِـرُ
غَيْرِيْ يَتُوْقُ إلَى لَيْلاهُ فِي سَعَةٍ    لِكِنَّ صَدْريْ بِمَنْ يَهْـوَاهُ يستَعِـرُ
أهْوَى الْهِلالَ إِذَا أبْدَى بِشَاْرَتَهُ     شهْرُ الصِّيَامِ أتَى بالخَيْرِ فَابْتدِرُوا
يَا خَيْرَ شَهْرٍ لَهُ فِيْ النَّفْسِ مَوْقِعُهُ  تَسْمُوْ بِهِ خُلُقًا، تَزْهُــوْ وتَنْتَصِرُ
حُدّثْتُ عَنْكَ كأَنّي لَسْتُ فِيْ شُغُلٍ   فِيْمَنْ أُحِبُ، لَعَمْرِيْ إنّـهُ الْهَـذَرُ
لَمْ يَعْرِفُوْا أنّنِي أبْــقَى مُسَهّدةً    أرْعَى النّجُومَ، بِليْـلٍ مَا بهِ قَمَـرُ
أرعَى النُّجُوْمَ وإنّي أرْتَجِيْ خَبَرًا   يَشْفِي غَلِيْلِي، فَلا حُـزْنٌ ولا كَدَرُ
ولِدتُ فِي الشَّامِ والأفْهَامُ حَائِرَةٌ    مَنْ هَذِهِ؟ أَفْصِحُوا يا قومُ ما الخبَر؟
فالشَّامُ قَدْ عَقِمَتْ والأرْضُ مُجْدِبَةٌ  مَـرّْت عُقُـوْدٌ وَلَمْ يَنْزِلْ بِهَا مَطرُ
والعِشْبُ أضْحَى هَشيْمًا لا حَيَاةَ بِهِ  بَـكَى عَلَيْهِ قُساةُ القَـلْبِ والحَجَرُ
ولِدْتُ فِي الشَّامِ والآمَالُ قَدْ دُفِنَتْ  فِيْ قَاعِ زِنْـزَانَةِ مِنْ حَوْلِهَا الْخَفَرُ
لَمْ يَدْرِ مُنـدهِشٌ أنّي عَلى قدَرٍ    فمَوْلِدِيْ هَا هُنـَا قَـدْ خَطَّهُ القَدَرُ
ناديتُ(حريّةٌ)في النَّاسِ فَانْدَفَعُوا    بِاسْمِيْ لقَـدْ هَتَفُوْا أَوْ بِاسْمِهَا زَأرُوْا
جُبْتُ الشآم؛ بَواديْها بها عبِقَتْ     أمّا حَوَاضِـرُها؛ فَبِاسٍمِــهَا جَهَـرُوْا
ولدتُ في الشامِ والغِربانُ تُفْـسِدُهَا     منْ خُبثِ ما زَرَعُوْا أوْ سُوْءِ مَا بَذَرُوْا
قدْ حَاوَلُوْا عَبَثًا وأْدِي بِمَكْرِهِمُ      لَكِنَّهُمْ خَسِئوْا، خَابُوْا بِمَاْ ائْتَمَـرُوْا
كمْ لَفّقُوْا تُهمًا ضِدِّي وما فَتِئُوْا     يَرْمُونَنِي، سفَهًا، مِنْ صَرْخَتِي سَخِرُوا
قيلَ اصبْرِي فغَـدًا تأتيكِ بارقَـةٌ      للنَّصْرِ يَحمِلُها ضيْـفٌ لَـهُ أثَـــرُ
والآنَ جئتَ بخَيْرٍ عَـمّ ساحتَـنا      صدْقٍ وصبْـرٍ وإنَّ النَّـصرَ مُنتَظَـرُ
هَـذا هِلالُك أحْـيَا عنْدَنا أمَـلاً       بهِ نَرَى الشَّامَ بالأحْـــرَارِ تَفْتَخِـرُ
هذا هِلالُك بِالبُشرَى يُضـيءُ لنَا      درْبًا فَنُبْـصِـرُ قيـْدَ الذّلِّ ينكسِــرُ
ذكّرْتَنـا بَـدْرًا والبَـدْرُ لَمْ نَـرَهُ     مُذْ عَاثَ فِي أَرْضِنـا مُسْتكْبِـرٌ أشِـرُ
هاهُم بَنيَّ أتَوْا والشوقُ يَـدْفَعُهُـم     للذَّوْدِ عَـنْ أمّـةٍ أبنَـاؤهَـا قُهِـرُوا
هُـم فتيةٌ آمنُـوا باللـهِ ربّهِــمُ     يَرْجُــوْنَ عَيْشًا كريْمًا عَاشهُ الْبَـشَرُ
لم يَحْمِلُوا مَعَهُم إلا مَصَاحِـفَـهمْ     يُـوفُـوْنَ نَـذْرَهُمُ فيْـمَا هُـمُ نَذَرُوا
ما بـدّلوا أبـَدًا في مَطْـلَبٍ طلبُوا    (حريّةٍ) ولهَـا مَـاتُوا ومَـا صَغُـرُوا
لَمْ يَثْـنِهِمْ أبدًا تهديْــدُ طاغِــيةٍ    لَـمْ يُـغْـرِهِـم أبَـدًا مَـالٌ ولا دُررُ
شهْرَ الصيّــامِ ألا من نَفْحَةٍ لَهُـمُ    تُلْـقِي السَّكِيْنَـةَ فيهِــمْ أينَما انْتَشَرُوا
تُحْيي نُفُـوْسَهُمُ، تُمْـضِي عَزَائمَهمْ   تَهْـدِيْ كتائبَــهُم لو أنَّــهم نفَـرُوا
آثَرْتُ صُحبتَهُم في كلِّ مَـوْقِعَـةٍ     هُـمْ عُـزْوَتِي وبِهِِـمْ أَمْضِيْ وَلا أَذَرُ
الأحد 30/شعبان/1432 الموافق 31تموز 2011-07-31