الخميس، 26 أغسطس 2010

الخاطرة الرابعة

نفحة بدريّة...

كثيرًا ما يقف معظمنا، نحن أبناء ما يُطلَق عليه "العالم الثالث" وقفة تعجب وانبهار؛ لما نسمعه عن رئيس دولة أو رئيس وزراء تلك الدولة، من خارج عالمنا، قد أعلن ــ من خلال قناة دولته التلفزيونية أو أي قناة فضائية أخرى ــ اعتذاره عن أمر أو فعل صدر منه وسبّب مضايقة أو أذى لأحد أفراد تلك الدولة ..
نقف مشدوهين لأننا متعطشون لأن نرى يتكرر مثل تلك المواقف بين ظهرانينا.. لتكوّن ظاهرة تميز مجتمعاتنا، بدلاً من أن تكون كالنقطة البيضاء في الثوب الأسود، نتعطش إليها كظاهرة، حتى ولو كانت على مستوى أدنى في المسؤولية من رئيس دولة أو رئيس وزراء.. وذلك حسب العرف التدريجي للمناصب...
ومما لا شك فيه أن فئامًا من الناس يجهلون ما يترتب على الاعتذار من نتائج حميدة وطيبة ولو أنهم عرفوا ذلك لما قصروا ولبادروا إليه سراعًا..
أما نحن المعجَبون فقد أنسانا وقعُ الفعل في نفوسنا؛ المدرسةَ التي علّمتْ أولئك الأفذاذَ ذلك الخلق النبيل..ولو أن مبادئ تلك المدرسة ظلت حية في ذاكرتنا لما وصلنا إلى درجة التعجب والانبهار من ذاك البعيد ولا إلى درجة التعطش والتلهف إلى هذا القريب...
أجل لقد نسينا، من جملة ما نسينا، أن شخصًا يُدعى سواد بن غزية وهو من أصحاب بدر كان قد وخزه الرسول صلى الله عليه وسلم بعود في يده وهو يسوي الصفوف.. فقال له سواد: آلمتني يا رسول الله .. فما كان من النبي الكريم الرحيم العادل إلا أن كشف على بطنه وقال له: استقد يا سواد.. فانكب سواد على بطن الرسول مقبلاً..وحين سأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب فعله هذا قال له: قد حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر عهدي في الدنيا أن يمس جلدي جلدك..
هنا ليس مجرد اعتذار.. فالاعتذار كليمات يُرضي بها المعتذِر المُعتذَر إليه.. ويطيب خاطره..إنه أكبر بكثير من الاعتذار.. إنه تمكين الآخر من القوَد.. تمكينه من النفس ليأخذ حقه منها، أو من المال ليصيب منه حتى يَرضى، ويُشْفى صدرُه، ويحسّ بحلاوةِ العدْلِ والمُساواة..
وتتكرر الأمثلة بين أولئك الذين تربوا في مدرسة النبوة.. فهذا أبو ذر يعيّر أحد الناس بأمه لأنها سوداء... فيشكو الرجل أبا ذر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم... فيقول له: "إنك امرؤ فيك جاهلية" فخاف أبو ذر كثيرًا وانطلق مسرعًا إلى الرجل يعتذر منه ويعرض عليه ما يريد ليصفح عنه..
ومر أبو سفيان - رضي الله عنه – على صهيب وبلال وسلمان، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها . فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟ . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره . فقال " يا أبا بكر ! لعلك أغضبتهم . لئن كنت أغضبتَهم لقد أغْضَبْتَ ربك " . فأتاهم أبو بكر فقال : يا إخوتاه ! أغْضَبتُكم ؟ قالوا : لا . يغفر الله لك يا أخي...
وتستمر هذه الأخلاق ملازمة لتلامذة مدرسة النبوة، يتوارثها اللاحقون عن السابقين... إلى أن بدأت تتوارى شيئًا فشيئًا، حين أخذت الهوة تكبر تدريجيا، بين الأمة من جهة، وقرآنها وسنة نبيها من جهة أخرى، حتى وصلت الأمة إلى حال تجعل أفرادها يَعجبون من فعل رجل من وراء البحار ما كان أمرًا بدهيًا عند رجالاتها قبل قرون.
وحين يتحقق جزء، ولو كان يسيرًا، مما كان خلُقًا نبويّا في هذا الأمر لدى أي مسؤول ستتحول دهشة الناس من فعل ذاك البعيد إلى إعجاب وحب وتقدير لهذا القريب.. ومن ثمّ تنعقد عروة من عرى التلاحم وتمتين الصلة بين الطرفين.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الاعتذار يحتاج إلى شجاعة لأنه يولّد صراعًا بين مُلْهمَيّ النفس؛ التقوى والفجور..وبقدر ما يكون المرء شجاعًا تتغلب في نفسه التقوى على الفجور ويندفع إلى الاعتذار ممن أخطأ معه غير مبال بوسوسات الجانب الفاجر كالعُجْبِ، والكِبْر، والشعورِ بعِظم الاعتراف بالخطأ، وغيرها....

الجمعة 17/رمضان/ 1431هـ.                                   محمد جميل جانودي

الجمعة، 20 أغسطس 2010

الخاطرة الثالثة

بسم لله الرحمن الحيم
الغداء المبارك
بعض الناس يتهاون في تناول السحور في شهر رمضان... إما لأنهم قد ملؤوا بطونهم مما لذ وطاب في الليل، فأصبحوا لا يملكون الرغبة في الطعام ولو كان لقمة واحدة... وإما لغلبة النوم عليهم بسبب ما فاتهم من نوم قبل ذلك... وإما لأنهم لم يتعودوا الأكل في وقت السحر..
ولقد سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجبة السحور بالغداء المبارك؛ فعن العِرْباض بن سارية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى السحور في شهر رمضان فقال هلموا إلى الغداء المبارك.
والفعل"يدعو" يمكن أن نفهم منه الحث والحض والترغيب في تناول السحور، ويمكن أن نفهم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الحاضرين من أصحابه ذات ليلة لتناول السحور عنده...
لكن الأمر سواء في المعنى الأول أو المعنى الثاني يدل على أفضلية وجبة السّحور وأهميتها.. لدرجة أن أطلق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم "الغداء المبارك".
وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "تسحّروا فإنَّ في السحور بركة".
ومجيئ "بركة" (نكرة) ، يفيد التعميم.. بركة في كل شيء؛ بركة في الطعام ذاته، وبركة في نفعه للبدن، وبركة في الأجر الذي يناله المتسحر، وبركة للمتسحر..في نفسه وماله وأهله وعمله.. و...
والسحور غداء مُبارك لأن وقته مبارك.. فهو وقت امتدح الله عباده المستغفرين فيه " وبالأسحار هم يستغفرون" [الذاريات18] فالمستغفرون ممتدح فعلهم في أي وقت لكن للاستغفار وقت السحر نكهة خاصة ..ففيه تسمو الروح ويصفو الذهن فيكون صاحهما في حالة خاصة من التقرب لله والصلة به..
والسحور غداء مبارك أيضًا لأن وقته يدخل في ثلث الليل الأخير الذي ينزل الله تعالى فيه إلى السماء الدنيا ويعرض على عباده ميزات ذلك الوقت... يقول لهم: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا من تائب فأتوب عليه؟ ألا من داع فأجيب دعاءه؟ ألا من ذي حاجة يسألني إياها فأقضيها له... ألا... ألا..
و السحور غداء مبارك لأن في وقته نجّى الله نبيه لوطًا ومن آمن معه من عذاب شديد ومهلك نزل في ساحة قوم لوط الذين كذبوه " كذّبت قومُ لوطٍ بالنّذر* إنّا أرْسلنا عليهم حاصِبًا إلاّ ألَ لوطٍ نجّيناهم بسَحَر" [ القمر 34].
وللأهمية التي بلغها السحور عند المسلمين كانوا يُطلقون عليه "الفلاح" فقد قال أبو ذر، رضي الله عنه، في حديث يروي فيه صيام الصحابة مع رسول لله صلى الله عليه وسلّم وقيام ليالي رمضان "...وصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح قلت له وما الفلاح قال السحور.." (وفي رواية: حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح)
وللتأكيد على فعله أوصى الرسول صلى الله عليه وسلّم ألا يدعه الصائم، وليفعلْه ولو بجرعة ماء فقد قال صلى الله عليه وسلم: " السحور أكله بركة ، فلا تدعوه و لو أن يجرع أحدكم جرعة ماء ، فإن الله و ملائكته يصلون على المتسحرين"
فجدير بالمسلمين ألا يُضيعوا بركة السحور، والفوائد الجمة لهذا الغداء المبارك، وأن يستعدوا إليه بنفس راغبة لا يثبطها نعاس لا يُدفع سلطانه، ولا معدة ممتلئة، ولا أي شيء آخر..



الجمعة 10/رمضان/1431                                 محمد جميل جانودي



الثلاثاء، 17 أغسطس 2010

الخاطرة الثالثة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم
الخشوع في الصلاة وثماره
الخشوع في اللغة هو الخضوع... وحين نقول خشع المصلي في صلاته نقصد خضع وذل لله تعالى، وهذا يعني أنه وضع نفسه رهن أوامر الله تعالى في العمل الذي يمارسه، وهو هنا: الصلاة، فقلبه موصول بالله، وجوارحه تتحرك وتعمل حسب توجيهات ربه ومولاه، وذهنه وعقله وتفكيره؛ كل ذلك منصب فيما يرضي الله.. عندئذٍ يفهم ما يتلو من قرآن أو أذكار، ولا يتحرك بجوارحه في غير ما بيّن الله له من حركات لتلك الجوارح.. فتراها ساكنة هادئة مطمئنة في مواضع السكون.. وتراها متحركة وتأخذ وضعية ما؛ في أوضاع بيّن الله له فيها كيف تتحرك وما الوضعية التي تأخذها.. فلتكبيرة الإحرام وضعية لحركة اليدين، وفي الوقوف وضعية للقامة واليدين، وهكذا في الركوع والسجود وسائر هيئات الصلاة.. وحين ينصرف قلبه واهتمامه وتركيزه عما هو فيه من صلاة يجعل نفسه عُرضة للخطأ في الحركات أو الأوضاع أو الأقوال.. لأنه بذلك لا يكون قد أتم ركوعها أو سجودها..ومن هنا نفهم لِم قال الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك الذي كان يصلي ولكن من غير أن يتم الركوع أو السجود أو من غير أن يطمئن فيهما "اذهب فصلّ فإنّك لم تُصل!".
والله سبحانه وتعالى غني عن عباده خشعوا أم لم يخشعوا.. ولكن من رحمته بهم حثهم على الخشوع في الصلاة ليحققوا الغاية من أداء الصلاة؛ من سمو في الروح، وراحة للنفس (أرِحنا بها يا بلال). واستقامة في السلوك وانتهاء عن كل فاحشة أو منكر " إنَّ الصلاةَ تنْهَى عنِ الفحْشَاءِ والمُنْكَر"
وفائدة أخرى عظيمة يجلبها الخشوع في الصلاة... فالصلاة عمل هام في حياة الإنسان المسلم.. فإذا واظب على خشوعه فيها يكون قد عوّد نفسه على الخشوع في كل عملٍ يعمله.. أي ينصرف بكليته ( بنفسه وجوارحه) إلى ذلك العمل.. وتزداد درجة تركيزه فيه ...وعندئذٍ يؤديه على أتم وجه.. فالعامل يُنجز عمله بجودة وإتقان، والمدرس يلقي درسه بأفضل ما يكون، فينظم عناصر موضوع درسه، ويرتبها، ولا يلتفت عن ذلك الموضوع إلى آخر؛ تمامًا كالمصلي الذي لا يلتفت في صلاته إلى سواها، والموظف يقوم بواجبه تجاه وظيفته على الوجه المطلوب، والسائق يقود سيارته من غير شرود فييبقى تركيزه في الطريق وعابريه سواء كانوا سيارات أو مارة.. والمُحاور للآخر يبقى مصْغيًا إلى صاحبه ليفهم ما يقوله..وهلمّ جرّا..
وإذا تذكرنا أن قوة التركيز في أثناء العمل أمر لا يتأتى بيسر وسهولة، وإنما يحتاج إلى تدريبات وتمارين متنوعة وتكون في أزمنة مختلفة، وأن يُبعد المرء جميع المؤثرات الخارجية التي من شأنها أن تعيق التركيز أيا كانت جهة تأثيرها سواء في ذلك السمع أو البصر أو الذوق أو الشم أو اللمس... إذا تذكرنا ذلك فنستطيع أن نفهم جيّداً حكمة توزيع  الصلوات المفروضة على خمسة أوقات في اليوم، واختلاف عدد ركعات كل وقت، والحكمة من تقديم العَشاء عند حضوره على العِشاء، وأن لا يشوش القارئ على المصلي برفع صوته، وألا يصلي الإنسان إذا كان يدافع الأخبثين..وألا يصلي المرء وأمامه ما يشغل باله كصورة أو ما شابهها، ولماذا يُمنع المرور بين يدي المصلي فالمار يقطع على المصلي تركيزه.. ويعيده إلى ما يقارب درجة الصفر.. وكيف أن المصلي أُعطي (في هذه الحالة) الحقَّ لأن يَمنع المار بين يديه ولو بالقوة... وغير ذلك..
فلقد راعى الشرع عند تحقق الخشوع في الصلاة - والذي يفضي بدوره إلى التركيز في العمل - كل مقومات تقوية التركيز الزمنية ( فجر - ظهر - عصر - مغرب - عشاء) فضلاً عن النوافل.. والعضوية( حركات اليدين والرجلين والجذع والرقبة..) والكيفية(قيام - ركوع - سجود ..) والنفسية ( الإحساس بمراقبة الله له).. وكل هذه تؤدي إلى وجود الإنسان الصالح لخدمة مجتمعه وإخوانه والبشرية جميعًا.. ومن هنا نفهم أحد أسباب كون الصلاة في وقتها من أحب الأعمال إلى الله تعالى، ولماذا أنه لا يُكتب للمصلي من صلاته إلا عشرها ، تسعها ، ثمنها ، سبعها ، سدسها ، خمسها ، ربعها ، ثلثها ، نصفها...  فالجزء من الصلاة الذي لم يُؤد بخشوع لا يكون له أي أثر في تقوية التركيز في أي عمل، ومن ثمّ فالمصلي يفقد فائدته في الدنيا، ويفقد أجره في الآخرة..
تلك هي من ثمرات الخشوع في الصلاة، ولذلك فالخاشعون في صلواتهم مُفْلحون " قدْ أفلَحَ المُؤْمِنُونَ* الذين هُم في صَلاتِهم خَاشِعُوْنَ* ..." مفلحون في الآخرة ومفلحون في الدنيا...

الجمعة، 13 أغسطس 2010


حصدْنا ما زَرَعْنــاه سويّـًا..
شعر/ محمد جميل جانودي
رَنَـتْ عَيْنَــاهُما نحْـو السَّـماء             وقدْ لَهَجــا بِصِدْقٍ في الدُّعــاءِ
إلهـي هــبْ لَنَـا ولداً كَريْمـًا                     فنسْعــدَ بِالْبُنُــوَّةِ والْبِنـــاءِ
تقَـرُّ عُيُونُنــا بِــرُؤاهُ دَوْمــًا                  ويرْفَــعُ ذِكْرَنــا بعْـدَ الْفَنَـاءِ
ويُثْلِــجُ صَدْرَنــا ويذودُ عَنَّـا                  ويحْمــي قومَـهُ عنْـدَ الِّقَــاءِ
*********
أجَـابَ اللـهُ دَعْـوةَ صَـاحِبَيْنـا                  بِطِفْـلٍ قـدْ تَحَــلَّى بِالْبَهــاءِ
بدَتْ في وَجْهِــهِ شاراتُ صِـدْقٍ            وفي عينَيْــهِ سِيْمَــا الأَذْكِيَـاءِ
لقـدْ أهْـداهُمـــا إيَّــاهُ ربٌّ                   جَوادٌ، لا يُضَاهَى في العَطاءِ
وفي كنَفَيْهِما أضْحــى سعيْــدًا              ويُعْطَــى ما يَشَــاءُ بِـلا عَنَاءِ
فإنْ يَــوْمـًا شكا ألَمـًا خَفيفًـا                 رأَيْـتَ أَبَــــاهُ يُهْـرَعُ بِالدَّواءِ
وتَصْحــو أُمُّــهُ لَيْلاً مِــرارًا                 لِتَحْمِيَـــهُ بِصَيْـفٍ أَوْ شِتَــاءِ
وكلٌّ مِنْهُمــا يَرْنُـــو إِلَيْــهِ                 إذا طلَعَ الصَّباحُ وفي الْمَسَـاءِ
**********
ولَمَّــا شـبَّ وجَّهَــهُ أَبُـوهُ                 إلى نَيْــلِ العُــلومِ والارْتِقَــاءِ
وكانَ كَمــا حَسِبْنــاهُ لَبيبْــًا                نَجِيْبــًا فاقَ كُلَّ الأَصْــدِقـاءِ
فأطْلَــقَ والِداهُ لَـهُ عِنَـــانـًا                تلَقَّــى مِنْهُمــا حُسْـنَ الثَّنَـاءِ
وقَـالا: قـدْ غـدَا جَلْـدًا قَويًّـا             فَمَـا يُخْشَــى عَلَيْـهِ مِنَ الْبَـلاءِ
فَأَصْبَحَ لا يُرَى في الْبَيْتِ إلاّ              لِوَجْبَاتِ الْغَـذاءِ أَوِ العَشَــاءِ
وأمَّـا والِـــداهُ ففـي انْشِغـالٍ            مـعَ الدُّنْيَــا لِتَحْصيْــلِ الثَّـراءِ
فَوالِــدُهُ لِجَمْـعِ الْمـالِ يسْـعى                وأمَّـا أُمُّـــهُ فَمَـعَ النِّسَــاءِ
*********
أحَــاطَ بِهِ رفَـاقُ السُّـوءِ حتّى           غَــدَا مَثَــلاً لِكُلِّ الأَشْقِيَــاءِ
فَـلا عِـلْمٌ ولا خُلُــقٌ رَزيْـنٌ          وأَصْبَــحَ في الأَنَــامِ بِلا حَيَـاءِ
تنَـاوَلَ مِنْ حُبُــوبٍ قَاتِـلاتٍ           وتَذْهَــبُ بِالْمُــروءَةِ والْوفَـاءِ
فيَمْضي طائشَـًا نَزِقًـا كئيبَا          ويَمْشي في الطَّريقِ بِلا اهْتداءِ
وحَـلَّـتْ فيـهِ أَوْبِئَــةٌ عِظـامٌ             وصَارَ الْجِسْـمُ مِنْ داءٍ لـِداءِ
وأَلْبـَسَ أَهْــلَهُ ذلاً وعَـــارًا              ونَفَّـــرَ مِنْـهُ كلَّ الأَقْرِبَـــاءِ
فَلا هَـمٌّ لَدَيْـهِ سِوى حُبـــوبٍ          ويَسْتَجْــدي لَهَـا أَهْـلَ الْبِغَـاءِ
تُخَــدِّرُهُ وَتَجْعَـــلُهُ طَريْحـًا             ويَشْــقى بِالْمَـذَلَّـةِ والْغَبَــاءِ
*********
وَدَقَّ الْبَــابَ شُرْطِـيٌّ بِعُنْــفٍ        وَزَفَّ لأَهْلِــهِ بُشْــرى الْبَـلاءِ
فصَـاحتْ أُمُّـهُ جَزَعًــا وقالتْ         مُحَــالٌ، إِنَّــهُ في الأَبْرِيَـــاءِ
مُحَــالٌ أنْ يبُــوءَ بأيِّ إِثْــمٍ          مُحَــالٌ أنْ يُخَيِّـبَ لي رَجَـائي
أجابَ أَبُوه في أَسَـفٍ عميـقٍ          صَحِيْحٌ ما سَمِعْـتِ بِلا مِـرَاءِ
لقدْ سُقْنَـاهُ نَحْـو الشَّـرِّ سَوْقـًا             لأنَّـا لَمْ نَـقُـدْهُ إلى العَـــلاءِ
بِغَفْـلَتِنَــا أَذَقْنـاهُ هَــوانــًا                تَجَــرَّعَهُ بِأَقْــراصٍ ومـــاءِ
فَلَمْ نَخْتَــرْ لَهُ أَصْحـابَ فضْـلٍ         بِرِفْقَــتِهمْ يسيْــرُ إِلى الإِبَــاءِ
ولَمْ نفـطنْ إِلَيْــهِ ذاتَ يَـــومٍ              نُعَـلِّمُـهُ طريــقَ الأَتْقِيَـــاءِ
ولَمْ نسْــأَلْـهُ يَـوْمـًا عنْ مَكانٍ        أتَـاهُ، وعادَ منْ بَعْــدِ العِشَــاءِ
عُنيْنا بابْنِنـــا جسَــداً وشَكْلاً            وأمَّـا روحُــهُ فبِلا اعْتِنَـــاءِ
حصَدْنَـا ما زرَعْنَــاهُ سويَّـــاً              يَدَانَــا أَذْكَتَــا نارَ الشَّقَــاءِ
*********

الخميس، 12 أغسطس 2010

الخاطرة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم
موقف خاطئ في الأزمات
حين يعاني بعض الناس من مشكلة ما، يعمدون في كثيرٍ من الأحيان إلى القيام بأعمال تزيدهم معاناةً فإذا ما نبّههم ناصح إلى ذلك تراهم يسارعون إلى طرح السؤال :"ماذا سيحصل أشدّ مما نحنُ فيه؟" وينطلق على لسانهم المثَل الدارج" أكثر من القرد ما مسخ الله". فمثلاً لو أن بعض الناس إذا أوشكت نقود أحدهم على النفاد.. وليس أمامه في الأفق المنظور ما يزيدها فتراه يسارع في إنفاقها بغية الهروب من مأزق الإحساس بقلة ماله.. وكذلك المريض بمرض شديد، ولاسيّما المتقدم في العمر، تراه يزهد في التداوي لشعوره بأن أيامه معدودة في الحياة.. والطالب الذي يكون قد تقدّم لاختبار عدة مواد وأُعلِنت نتائجها وكان راسبًا فيها كلّها أو في مُعظمها.. فتراه يتهاون في تقديم اختبار الباقي من المواد.. بدلاً من أن يتولّد عنده حافز الجد لتعويض ما فاته..

وفي حقيقة الأمر إن هذا خطأ كبير وذلك لأمرين:

الأول: العاقل يتجه في تصرفاته إلى الخروج من المأزق الذي هو فيه وليس على تكريسه.

الثاني: سؤالهم المتقدم الذكر يدل على ضيق نظر عندهم! فكيف عرفوا أنه لا توجد مشكلة أكبر من التي هم فيها، أو ربما يدل على يأس كبير قد استولى على نفوسهم.

والحق ؛عليهم أن يتذكروا قول الله سبحانه وتعالى:"إنّ مع العُسر يُسْرا* إنَّ مع الْيُسر يُسرا" وعليه فلن يغلبَ عسرٌ يُسرَين.

وإذا ما استقر ذلك في أعماق نفوسهم فإن ذلك يدفعهم إلى الاتجاه في طريق حل المشكلة، وإزالة العقبات التي تكرسها.

من جهة أخرى؛ لا توجد مصيبة إلا ويوجد ما هو أعظم منها على كل من صعيدَي المالِ والنّفْسِ وغَيْرهما.. فالذي لا يملك درهمًا واحدًا هو في حالٍ أفضل من المَدِين، والمَدِيْنُ بدرهم أفضل حالاً من المدين بدرهمين.. وكذلك من فقد إحدى عينيه هو أفضل حالاً من الأعمى وهكذا.. فلا يليق لمن خسر إحدى عينيه أن يأتي بما يهدد العين الأخرى.

ثم لو أننا قبلنا أن هناك حدًا أدنى للخسارة المادية أو البدنية.. فلا ينبغي لمن وصل إلى ذاك الحد أن لا يقوم بما يُعْلي مستوى ذاك الحد الأدنى باتجاه إيجابي، وإن لم يفعل فيكون قد ناقض الفطرة السليمة التي فطر الله عباده عليها.

والحل يكمن بفهم سنن الله في الابتلاءات والنوائب، وأن الفرج يأتي مع الصبر، وأن "من يتق الله يجعل له مِخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب". وأن الله قال: " لا تدْري لعلّ الله يُحدثُ بعد ذلك أمْرًا". وأن على المرء أن يأتي بالأسباب المقدور عليها والمشروعة للخلاص من معاناته.

وما أجمل بعض العبارات التي ينطق بها العقلاء من الناس في مثل هذه المواقف كقولهم لمن تعرّض لحادث سير مثلاً " الحمد لله جاءت في الأموال وليست في الأبدان" وقولهم في أمرٍ آخر " الحمد لله جاءت (أي المصيبة أو المشكلة) إلى هذا الحد" والدّعاء "اللهم استر من الأعظم". وغير ذلك من الكلمات التي تُطمئن النفس وتحفزها على العمل بما هو نافع.

ولا يجوز أن يُفهم من ذلك أنه قتلٌ للطموح لدى المرء ودعوة له إلى الرضا بالقليل في كل شيء.. فما مر ينطبق على من حلّت به المشكلة،وانتهى الأمر... لكن الأصل أن يسأل المرء ربه العافية، وأن يكون طموحًا يتطلع إلى خير مما هو فيه، فالتنافس في الخير مطلب إيجابي. "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".


الجمعة 25/8/1431هـ و 6/8/2010م                                محمد جميل جانودي 













الخاطرة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم
أذى الإنسان لنفسه
أحيانًا قد يتسبب الإنسان في أذى نفسه أو وضعها في مأزق يعود عليه بالضرر ماديًا ومعنويًا...وتتفاوت مواقف الناس منه.. فمنهم من يحزن عليه ويسعى إلى أن يقدم إليه العون ليُخلّصه مما هو فيه... ومنهم من ينظر إليه شزرًا ويردد لسانه المثل العامي "من إيدو الله يزيدو" ويتفرج عليه وهو تحت وطأة المعاناة...


وفي الحقيقة إن الموقف الثاني هو الموقف الخطأ، والمُستنكَر من قِبل أصحاء النفس والعقل.. ولو أن أحدًا ناقش أصحاب ذلك الموقف لسارعوا في الإجابة قائلين: دعوه ينل جزاء ما سبّب لنفسه.. ولا ينسون سَوق ما كانت العرب تردده من أمثلة تناسب الحالة مثل"يداك أوكتا وفوك نفخ" و "على نفسها جنت براقش" ولكن ليس بالضرورة أن العرب لا يسارعون إلى من جنى على نفسه أو من يداه أوكتا وفوه نفخ..


لكن فريقنا الذي نعنيه بالحديث لا يأبه بما يرى...وخطؤهم يتضح فيما يأتي:


أولاً: كل إنسان معرّض لأن يُخطئ.. لِقول الرسول صلى الله عليه وسلم " كل ابن آدم خطّاء وخيرُ الخطائين التوابون". وخطأ الإنسان يكون في بعض الأحيان مع نفسه.. بل لو نظرنا بعمق أكثر لقلنا: إنه في جميع حالات خطئه يكون خطؤه مع نفسه.. لأن خطأه مع غيره يرتد على نفسه بالضرر؛ بصورة من الصور.. و طبيعة الإنسان هذه لا تدعو لأن يُوقَفَ منه ذلك الموقف الغريب. والحل الناجع يكمن في مساعدته، وبيان أن خطأه ذاك صغير مهما كان كبيرًا أمام رحمة الله وعفوه ومغفرته، فهذا مما يهيئه نفسًيا لأن يتحول عن الخطأ برغبة وصدق.


ثانيًا: كثيرًا ما يكون خطؤه راجعًا إلى جهل، وقلة خبرة أو معرفة... فمن الخطأ توجيه اللوم له أو تأنيبه..أو تركه دون عون أو مساعدة.. ويتمثل عونه هنا في تعليمه، وبيان الصحيح من العمل كي يفعله.وبذلك يتحقق في الرجل أمران؛ الأول:حب الناس الذين علّموه، والثاني: تعزيز ثقته بهم، فيغدو يتقبل كل نصح أو توجيه منهم لتيقنه أن في ذلك خيرًا له.. وما أجمل أن نتذكر قصة ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد فقام عليه الناس من حوله صارخين ومؤنبين ولائمين.. فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلّم إلا أن بيّن لهم أن ما فعلوه خطأ ، ونهاهم عنه إذ قال لهم " دعوا الرجل لا تقطعوا عليه بوله، ثم دعا به ، فقال : ألست برجل مسلم ؟ قال : بلى ، قال : فما حملك على أن بلت في المسجد؟ ، قال : والذي بعثك بالحق ما ظننت إلا أنه صعيد من الصعدات ، فبلت فيه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذَنوب من ماء فصُبَّ على بوله" وعن ابن مسعود قال إذا رأيتم أخاكم قارف ذنبًا فلا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه؛ تقولون اللهم اخزه اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية، فإنا كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كنا لا نقول في أحد شيئا حتى نعلم على ما يموت؛ فإن ختم له بخير علمنا أنه أصاب خيرًا، وإن ختم له بشر خفنا عليه عمله.


ثالِثًا: لو أن المخطئ مع نفسه تُرك من غير عون أو مساعدة ففي أغلب الحالات يتجاوز الضرر الذي حل به إلى الآخرين.. وعليه ففي مساعدته نجاة له ولغيره.


رابعًا: هبْ أن المخطئ ينبغي أن يُعاقب على خطئه، فمن الخطأ أن تكون عقوبته تركه على خطئه ومعاناته... بل تتم معالجة حالته ليصبح أمره سويّا، ثم يُعاقَب بما يكفل ردعَه عن الوقوع في الخطأ ثانيةً من غير شطط أو أذى.


ومن هنا يُمنع المقدِمُ على الانتحار من إتمام انتحاره، وشاربُ الخمر من شربها، والمبذرُ بماله من التبذير.. ومُكرهُ فتياته على البغاء من ذلك، وعاضلُ النساء من عضلهن.. وهكذا.... ولا يجوز بحال من الحال أن يُسمعَ له إن قال: ( أنا حرٌ بنفسي أو بأولادي.. أفعل ما أشاء)..


الجمعة 3/رمضان/1431                                                                                                    محمد جميل جانودي