الأربعاء، 29 سبتمبر 2010

وقفة عند خبر(1)



محمد جميل جانودي
  دفع المصيبة أو السيئة (1)     
 مما يُؤسف له أنه في معظم بلدان العالم الإسلامي، يتعرض الطفل الذي يودعُه الله تعالى لدى الأسرة على الفطرة سليمًا معافى خَلْقيًّا ونفْسيّاً، يتعرض لأنواع عديدة من الضغوط والقهر النفسي من قِيَل مصادر عدة.. نتيجة البعد عن توجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية... فطريقة تربيته أسريّاً تكون خاطئة، وكثيرًا ما يلقى العُنف والضرب وهو لمّا يتمكن من النطق أو المشي.. ثم يأخذ طريقه إلى الحياة وتنمو معه وسائل الضغط تلك وتتوسع دائرة مصادرها لتشمل المجتمع الصغير من حوله ثم المدرسة ثم الجهات السلطوية على مختلف صورها وأشكالها... ويتعرض لأسباب قاهرة للانحراف في السلوك والفهم.. مثل الفقر والبطالة وعدم تكافؤ الفرص أمامه في التعلّم والتوظيف، والتمييز بين أفراد المجتمع بسبب الانتماء الطائفي أو الحزبي أو القبلي أو العائلي.. وبذلك يعاني أضعاف مضاعفة ما يلاقيه الطفل الغربي في المجالات المذكورة ، بل ربما يكون بعضها غير موجود في المجتمعات الغربية إلا بصورة هامشية..
فإذا تذكّرنا ذلك وتفحصْنا ما يرِد من أخبار شبه متواترة عن حالات القلق والاضطراب النفسي التي تكاد تودي بإنسانية الفرد في الغرب وتقوده إلى الانتحار، وليس آخر تلك الأخبار ما أورده موقع قناة الجزيرة يوم الأربعاء 29/9/2010 والذي يقول: ارتفعت معدلات الانتحار بين الأميركيين في منتصف العمر (الكهول) خاصة الرجال البيض منهم لأسباب تعود إلى النواحي الاقتصادية والتعليمية والصحية.
ثم تورد الجزيرة تفصيلاً لهذا الخبر بأن معدلات الانتحار آخذة بالتصاعد فبينما في عام 1979 كانت 21.8 من كل مائة ألف فقد وصلت إلى 25 من كل مائة ألف عام 2005 وأرجعت عالمتا الاجتماع جولي فيليبس من جامعة روتجرز في نيوجرسي وإلين إيدلر من جامعة إيموري في أتلانتا أن ذلك يعود إلى ارتفاع معدلات البطالة وحالات الإفلاس فضلا عن النواحي الصحية، وأظهرت دراسات أخرى أن خطر الانتحار لدى غير المتزوجين أكبر بكثير منه في أوساط المتزوجين، حيث بلغت المعدلات ثلاثة أضعاف ونصفًا.
وبالتدقيق في هذا الخبر وأرقامه يتساءل المرء عن قوة تلك المناعة والحصانة التي يتمتع بها المسلم والتي تحول بينه وبين الإصابة بأمراض القلق والاضطراب النفسي والإقدام على الانتحار...
ومما لا ريب فيه أن تلك الحصانة قد نشأت لدى الطفل من قبل الولادة... ومرد ذلك يعود إلى أنه في خضم ذلك الكم غير المستهان به من الأغلاط التربوية التي تُمارَسُ عليه.. فهو يتلقى -عفويّا- إلى جانب ذلك وفي محطات عديدة من شريط حياته جُرعات قوية من الإيمان بالقضاء والقدر، والصبر، ومواجهة العقبات، من غير أن يُشبع نفسه لومًا وتقريعًا على أنها هي وراء كل ما يصيبه.. فهو قد سمع أباه وأمه يتلوان قوله تعالى: "ما أصابَ منْ مُصيبَةٍ في الأرْضِ ولا في أَنْفُسِكُمْ إِلاّ في كتابٍ منْ قبلِ أنْ نبرَأَها، إنَّ ذلك على اللهِ يسير* لكَيْلا تأسَوا على ما فاتكُمْ، ولا تفْرحوا بما بما آتاكم والله لا يُحبّ كلّ مُختالٍ فخور". وأخذ يتفهم معناها ومدلولها رُوَيدًا رُويدًا...حتى يترسّخ عنده المدلول الصحيح للآية الكريمة فيتقبل برضى نفس كل ما يُلاقيه... وحتى لو فرضنا لم يسمع تلك الآية؛ فهو كثيرًا ما يَسمع عبارات الحمد والشكر على كل حال، والرضى بما قُدّر..يسمع ذلك كيفما اتجه وأنى حل.. في البيت وفي المدرسة وفي السوق وفي الوظيفة ... فتحفر تلك العبارات في أعماق نفسه أن كل شيءٍ بيد الله تعالى... وألا مَهرب له من ذلك إلا بما وضحه الله تعالى في القرآن وبينه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة، وأكثر من ذلك؛ يرى أمام عينيه كثيرًا من ذوي المصائب قد ارتسمت على محيا كل منهم ابتسامات الرضى، آملين أنهم بتلك المصائب إما أن يكون قد غُفرت لهم ذنوبهم وإما أن تكون تلك المصائب رفعًا لمرتبتهم عند الله.. ويكون المسلم بذلك قد بنى بينه وبين الانتحار جدارًا سميكًا لا يمكن للثاني أن يخترقه ليصل إلى نفس الأول.
وينبغي ألا يشطط التفكير عند قارئ هذه الكلمات إلى ما لم يكن المقصود منها.. ألا وهو الرضوخ والاستسلام للمصيبةِ، وعملِ السوء، أو قالةِ السوء، والتعامل مع ذلك كله بصورة سلبية.. فحاشا لله أن يريد من عباده ذلك.. قال تعالى: " إنّ الحسنات يُذْهِبْن السيئات" وقال " ادفع بالتي هي أحسن..) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم " .. وأتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها". فالقلق والاضطراب والمرض والظلم والقهر والفقر والجوع والجهل..كل ذلك من السيئات التي يتعرض إليها المرء.. فمن الخطأ الفادح الرضى بها والاستسلام لها... بل وجه القرآن الكريم إلى مدافعتها والخلاص منها... ولكل سيئة حسنة تناسبها وتدفعها وتقصيها.. وللمسلمِ أجر في التحري عن الحسنة ليدفع بها سيئة. وهذا ما يتضح جليّا في الحوار الذي جرى بين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وبين أمين الأمة أبي عبيد عامر بن الجراح حين انتشر وباء الطاعون في عمواس وكان أبو عبيدة هناك فطلب منه عمر أن يخرج منها فقال له أبو عبيدة: أأفرّ من قدَر الله يا أمير المؤمنين؟ فأجابه عمر؟ نفر من قدر الله إلى قدر الله يا أبا عبيدة... فالمكوث في أرض الطاعون مصيبة وسيئة (بغير معنى الذنب)، وتُدفع بحسنة تناسبها وهو الخروج... وهكذا شأن كل مصيبة..
ولما كان مما يقارب المستحيل - بحكم ما ألف المسلم من تربية - أن يبخع نفسه بما يحل به من مصائب وسيئات الأمر الذي يدفعه إلى البحث عن مهرب ولو بالانتحار؛ بل يلجأ إلى التماس حسناتٍ تدفع عنه تلك السيئات، وهو بهذا أمام أمرين:
فإما أن يلتمس تلك الحسنات الدافعة للمصائب والسيئات في مظانها الصحيحة وفق هدي من كتاب الله وسنة رسوله.. وبعد التسلح بالصبر والتأني، يعثر عليها،وعندئذٍ تفعل تلك الحسنات فعلها المرجو منها... وينجح في دفع ما أصابه..
وإما أن يتخبط في البحث عنها فيصبح كحاطب ليل، وغالبًا ما يقوده ذلك إلى مصيبة أكبر، وهذا ما يقع به بعض المسلمين حين يبتعدون عن المنهج القرآني، ويلجؤون إلى العنف بوجوهه المتعددة لدفع السيئات والمصائب التي حلّت بهم بدءًا من تربية الطفل وهو صغير إلى معالجة أكبر قضايا المجتمع....
فالحمد لله على نعمة الإسلام التي فيها راحة للنفس، وطُمأنينة للقلب، وهدي لما يحل مشكلاتنا، ومعضلاتنا؛ من غير جور يتمثل في الهروب منها بالانتحار المادي أو المعنوي، أو شطط يتمثل بالانحراف عن الحق في نشدان تلك الراحة والطمأنينة...

الجمعة، 24 سبتمبر 2010

الخاطرة الثامنة

حقّ الطريق... (2)
في الخاطرة السابقة تمّ عرض الحق الأول الذييجب أن يراعيَه من يريد الجلوس في الطرقات وهو غضُّ البصر، وهذه الخاطرة سنتناول الحقَّ الثاني:  

إماطة الأذى ن الطريق صدقة
 ثانيًا: كفُّ الأذى؛ والكفّ في أحد معانيه المنع، ومن حقوق الطريق منع الأذى...ويحصل الأذى بطرق عدة.. فإما من الإنسان نفسه مباشرة، وإمّا من غيره مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة.. وآكدُها هو ما يخص الفرد، ويكون سببا لوقوعها.
فعلى الفرد ألا يؤذي الموجودين في الطريق كيفما كان شكل وجودهم.. لا يؤذيهم ببصره، وهذا ما ذكر في "أولاً"، ولا يؤذيهم بلسانه، فلا يصخب ولا يسب ولا يشتم ولا يهزأ، ولا يغتاب، ولا ينمّ، ولا يكذب، ولا يُحرّش بين اثنين، ولا يشهد شهادة زور (حين يُطلب ليشهد على أمر وقع في الطريق)، ولا يؤذيهم بيده أو بما تحت تصرّف يده، فيضع فيه ما يُضيق على الناس مسيرهم، أو وقوفهم في أماكن الوقوف الضرورية.. فلا يُلقي أوساخًا أو مُهملاتٍ في الطريق، ولا يضع حاجاته وأغراضَه في طريق المارة، ولا يُوقف سيارته في مكان فيُضيّقَ الطريق على الناس أو يمنعهم من الخروج أو الدخول إلى مكان ما.. ولا يُخالف تعليمات رجال المرور لأن في تلك التعليمات مصلحةً للناس جميعًا، ومن صور تك المخالفات: السرعة الزائدة عن الحد المقرر، وقطْعُ الإشارة المنظمة للسير في تقاطعات الطرق، والوقوف في المنعطفات أو أماكن سُمح المرور فيها بصورة دائمة..أو مزاحمة الناس بطريقة عشوائية للتقدم بسيارته إلى موضع يرغبه.. واستخدامُ الأنوار المبهرة للعيون ..وإيقاف السيارة بطريقة غير منتظمة في المواقف العامة فيشغل مكان سيارتين أو أكثر؛ كان من الممكن لغيره أن يستفيد من ذلك المكان..والاشتغال بأي أمر غير القيادة ...وعدم إحْراج الآخرين من غير ضرورة، كأن يستأذن من غيره أن يُفسح له ليعبر وكان بإمكانه أن ينتظر ليتسع الطريق له بصورة تلقائية... والظهور في الطريق بمظهر غير لائق يتأذى من رؤيته الآخرون... ورفع الصوت أكثر من المعتاد حين التّكلّم لضرورة، ورفع صوت مذياع السيارة أو جهاز التسجيل بشكل يؤذي الآخرين...إلى غير لك..وعلى المرء أن يهتم بأداء سيارته فلا تكون سببًا في تعطيل سير سيارات الناس أو تكون مخلفاتها مؤذية لهم. وعليه أن يمنع الأذى الصادر عن الآخرين بطريقة لا ينجم عنها ضرر أكبر.. فيستخدم الحكمة والكلمة الطيبة، وإن كان الأذى من النوع الذي يُزال بجهد فردي؛ فليسارع إلى إزالته من غير أن ينتظر متسبب الأذى ليزيله...
ومن الأذى المشي في الطريق بخيلاء وتكبر... ومن الأذى الذي يجب أن يُمنع ويُكف؛ ما يقوم به بعضهم بما يُطلق عليه "التفحيط" وغالبًا ما يظهر ذلك من بعض المراهقين... ومن الأذى استخدام منبه السيارة بصورة مزعجة في أي وقت من ليل أو نهار...ومن الأذى ألا يضعَ من يتولّى إصلاح الطرقات لوحاتٍ تنبه إلى ذلك، وتدل على الطريق البديل في حال قطعه..ومن الأذى أن يرى المرء في الطريق شيئًا قيّمًا مفقودًا فيلتقطه ولا يسأل عن صاحبه ليوصله إليه.. ومن الأذى انتشار المتسولين في الطرقات وعند تقاطعاتها، وهو أذًى نفسيٌّ أكثر من كونه ماديًا، وربما تشارك أكثر من جهة في تسببه!! ومن الأذى كل عمل تقوم به تجاه الآخرين وتكره أن يقوم به غيرك تجاهك...
    كفُّ الأذى شِيَمُ الرِّجالِ وإِنما        (حبُّ الأذِيَّـةِ منْ طِباع العقربِ)
    لا تُؤذِيَنَّ نُمَــيْلةً متعمِّـدًا         فاللـهُ يـأخذُ حقَّهـا يا صاحبي

الاثنين، 20 سبتمبر 2010

الخاطرة السابعة

حقّ الطّريق...(1)
عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والجلوسَ في الطرقاتِ . قالوا : يا رسول الله ! مالنا بدٌ من مجالسنا . نتحدثُ فيها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإذا أبيتم إلا المجلسَ ، فأعْطوا الطريق حقهُ . قالوا : وما حقُّه ؟ قال : غضُّ البصر ، وكفُّ الأذى ، وردُّ السلام ، والأمرُ بالمعروف ، والنهيُ عن المنكر.
وزِيْدَ في روايةٍ أُخْرى: ((وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال)).
لا يمكن أن يستغني الناسُ عن استخدام الطريق؛ مرورًا أو جلوسًا، أو قضاءً لحاجاتٍ لهم كبيع أو شراء أو لقاء... ولقد حذَّر الرسولُ صلى الله عليه وسلم من الجلوس تحديدًا، لما يترتب عليه من ُمنكرات ومخالفات.. ومثل الجلوسِ كل ما يشبهه في الآثار المترتبة عليه..
وإن كان لا بد من ذلك فقد طلب إليهم أن يعطوا الطريق حقه...ومن حق الطريق:
أولاً: غضّ البصر؛ والغضّ هو الخفض والكفّ والكسر... ولا يقتضي أيّ منها المنعَ المطلق بالضرورة..ولما كان الطريق لا يخلو من مارة، أو واقفين لعَرَض ما، فعلى مستخدم هذا الطريق، أنى كانت صورة استخدامه له، أن لا يرفع بصره ويُحمْلق في الآخرين؛ مارين كانوا أم واقفين.. لأن ذلك يثير في نفوسهم تساؤلاتٍ وشكوكًا، وربما يوقعُهم في حرج.. هذا فضلاً عن كونِ المبْصَر في بعض الأحيان ممن يَحرم إدامة النظر إليه..
وقد يكون من بين مستخدمي الطريق مبتلًى كأن يكون أعرجَ أو مُقعدًا أو أعورَ أو غير ذلك، فإدامة النظر إليه تجعله يظن أنه موضعُ سخريةٍ أو ازدراءٍ أو تحقيرٍ، فتصغر نفسه في عينه، ويتألم.. وربما يتولد عنده كره أو حقد لِمُديمِ النظر إليه.. أو أن إدامة النظر إليه تجعله يظن أنه موضعُ استرحام واستعطاف.. وهذا أيضًا يؤذيه... وفي الحالين يحسُّ بأنه يبدو في وضعه نشازًا عن غيره.. وإن كانت تبدو على المنظور إليه سماتُ الغنى ورغدِ العيش كأن يركبُ سيارة فارهة، أو يلبسُ ثيابًا ثمينةً وأنيقةً، فربما يذهب الظنُّ عنده فيمن يطيل النظرَ إليه على أنه يحسده... أو أنه يريد التعرف عليه بدقة حتى يسرقَه، أو يُوقِع به أذًى من نوعٍ ما.
وأمرٌ آخر، فإن الذي يُشغل نفسَه بتحويل بصره إلى هذا وذاك، أو إلى هذه وتلك، فإنه ينصرف عن الغرض الذي من أجله جاء إلى مكانه الذي هو فيه.. فلو أنه كان ينتظر سيارة فربما تمر ولا يراها... وإن كان يتوقع نداءً لاسمه من أجل عملٍ ما فقد يُنادَى باسمه ولا يسمعُه، بسبب ذلك الانشغال...وهكذا..
وفُضُول إطلاقِ البصر يؤدي أحيانًا إلى ندمٍ وحسرةٍ.. فكم من مبصر شيئًا تمنى لو أنه لم يرهُ.. إما لبشاعةِ ما رأى، أو لأنه عاجز عن القيام بأمر ما حيال ما رأى، فيبقى يُقَرّع نفسه ندما على إطلاق بصره هنا وهناك من غير ضابط ...
وإنْ فَشَتْ هذه الخصلةُ (عدم غض البصر) في مجتمع ما؛ فإن من شأنها أن تولّد البغضاء والضغائنَ بين أفراده..و هنا تتجلّى عظمة التوجيه القرآني الكريم " قُلْ للمُؤْمنينَ يغُضّوا مِنْ أبْصَارهِم ويحفظوا فروجَهم، وقل للمُؤمنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أبْصارِهِنَّ ويحََْفَظْن فروجَهن.." وإن كان السياق يدلُّ على دفعِ غائلةِ إثارةِ الشهوة الحرام..بعدم غضِّ البصر..فهو توجيهٌ يمكن تعميمُه ليشمل كل المحظوراتِ التي يمكن أن تنجمَ عنْ هذه النِّحْلة.
فالذي يغضُّ بصره عمَّن لا يعنيه يكون قد جلب لنفسه ولغيره فوائدَ جمةً، ومنافعَ كثيرةً وفي الوقت نفسه يكون قد دفع عن نفسه وعن غيره مضارَّ وشرورًا مُهلكةً.
أنا لا أرى مـا لا يُجيـزُ الله لي رُؤْيَـاهُ
في البيتِ أو في الدّرْبِ أو فيْ مَوْضِعٍ أغْشَاهُ
وعلينا أن نفرّق بين فُضُوليِّ البصر وبين البصير.. فالأخير يرى ما ينبغي رؤيتُه بقصد الإصلاح والتحسين أو العون والمساعدة.. فلا يجوز المرور في الطريق وإغماضُ العين عمن يحتاج إلى عون ومن ثم يفوتُه تقديم العون له، أو عمّن يؤذي الآخرين وعدم ردعه عن أذاه... أو عن شيء مؤذٍ كشوكة تدخل في رِجْلِ ماش، أو عن مسمار يمكن أن يخرِّب إطارَ سيارة، أو عن شيءٍ فاسدٍ يؤذي الناس برائحته أو شكله، فأمثالُ هذه الأشياءِ المؤذية وأمثالها يجب ألا يغفل عنها المؤمن لأن إماطتها من شُعَبِ الإيمان. والذي يُشيحُ ببصره عنها يُخشى أن يدخل في قوله تعالى " ولهم أعين لا يُبصرون بها"
كما وينبغي ألا يغفلَ المرء النظر بإمعانٍ إلى جميع اللوحات الإرشادية المثبتة في الطرقات، لأن في إغفالها إعاقة، وإضاعة للوقت، وربما ينجم عنه ضررٌ.. ولا عن تلك التي تشرح كيفية الحصول على أمر أو القيام بعمل أو الوصول إلى هدف عام..كتلك التي تكون موجودة في الدوائر والدواوين..
ويُلْحَقُ بالطريق الأماكنُ التي ينتظر فيها الناس، كمراكزِ انطلاق السيارات، والمطارات، وصالات الانتظار في المستشفيات، وفي الدوائر الرسمية لإنجاز المعاملات، ومراكز الأسواق، والملاعب والمنتزهات...
والخلاصة فالبصر حين يكون صاحبه فُضوليّا، ويؤدّي إلى ما ذُكر أعلاه هو بصر مسؤول عنه، ومُحاسَبٌ عليه " إنّ السّمع والبصرَ والفؤادَ كلُّ أُولئِكَ كانَ عنْه مَسْؤولًا" أما البصر الذي يقود إلى عون الآخرين، ودفع الأذى عنهم فهو بصر مأجور..(( عينان لا تمسّهما النار، عينٌ بكتْ منْ خشيةِ الله، وعين باتتْ تحرُسُ في سلب الله" وشتّان ما بين البصرين.


السبت، 11 سبتمبر 2010

الخاطرة السادسة

بسم الله الرحمن الرحيم 
العيـــد

العيد من العَوْد... وعَودُ الشيء إلى الإنسان مطلوب ومرغوب؛ حين يكون مُسعِدًا ومحمودا... وحين يكون نافعًا ومفيدا... وهو مكروه ومنبوذ حين يكون على غير ذلك.. وكثيرًا ما نسمع على لسان من فُرّج عنه كرب في يوم من الأيام، أو حُلت له مشكلة، أو تخلص من ضائقة مالية أو غيرها، أو وجد أحد إخوانه يقف بجانبه ليعينه في أمر ما؛ العبارة "هذا اليوم يوم عيد لي"



والعيد بالمعنى الأول حاجة ضرورية للنفس البشرية... لذلك سعت الأمم إلى اتخاذ عيد أو أكثر لها لتلبي تلك الحاجة... وبعضها اقترب أكثر من غيره في تحقيق الهدف من العيد..



والأمة الإسلامية واحدة من الأمم... لكن أعيادها لم تتخذها باجتهاد منها.. بل اتخذها لها ربّها لأنه أعلم بها من نفسها .. يعلم ما يُسعدها ويسرها.. وما ينفعها ويفيدها...(( قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : قد أبدلكم الله بهما خيرا منهما : يوم الأضحى ، ويوم الفطر))



كما اتخذ لها يومًا كل أسبوع ليكون عيدًا أسبوعيًا لها... يُخفف عنها آلامها ومتاعبها التي عانت منها طيلة أيام الأسبوع.. ومن تخفيف آلام المرء ومتاعبه مشاركة الآخرين له بالشعور بما يحسه ويتألم منه... ومن تخفيف تلك الآلام والمتاعب التعرف على طرق إزالتها والتخلص منها... وهذا ما يتحقق يوم الجمعة... ففيه يتزاور الناس فيما بينهم، ليفضي بعضهم إلى بعض بما لديه.. فيسمع كلمة عزاء من هذا، وتطييب خاطر من هذا... ويلقى حثّا على الصبر، والتجمل به من ثالث... كما يسمع من يقترح الحلول والنصائح للخلاص من المعاناة..وفي أغلب الأحيان ينبثق عن القول والنصح والاقتراحات تطبيق عملي لمساعدة المتألمين والمصابين.. أما على المستوى الجماعي؛ فتأتي خطبة الجمعة لتبْسط أمام الناس ما يعانون من مشكلات، ويمضي الخطيب في طرح الحلول لها... ويحث الناس على العمل على إنفاذ تلك الحلول... وربما كان هذا أحد أسباب التحذير والوعيد لمن يكرر التخلف عن صلاة الجمعة .. لأنه إن كان هذا المتخلف في مشكلة؛ فقد تقوقع في بيته وحرم نفسه من معالجتها وحلها، حين يحضر الصلاة. وإن لم يكن ذا مشكلة؛ فيكون قد حرم غيره مما لديه من خير يقدمه لهم ...فالجمعة عيد...فيه دفع لشر وحل لمشكلات أو جلب لخير كثير، وفوائد جمة.



واتخذ الله للأمة الإسلامية عيدين آخرين في العام، وقّتَهما لها في ميقاتين يكون فيهما إمكانية العطاء للخير أو الدفع للضر في أوجها... عيد الفطر.. الذي يأتي عقب شهر قد شُحذت به الهمم، وصُقلت به النفوس، وتدربت على كل ما ينفع.. وفيه تكون أقدرَ ما تكون على بذل الخير، وحل مشكلات الأمة ...إنه عيد على المستوى الفردي للفقير والغني؛ فالفقير يستهله وقد كفاه الله في ذلك اليوم، عن طريق زكاة الفطر، همَّ التفكير في قوت ذلك اليوم له أو لعائلته.. وزكاة الفطر فريضة من الله لا منة فيها لغني.. أما الغني فربما يكون حظه منها أكثر من حظ آخذها الفقير.. فهي مكفّرة عن أخطائه، وزلاته، طيلة أيام رمضان.. وهو عيد على مستوى الأمة لأنها تعيش يومًا يغير ما تعودت عليه من قبل... تغيير يبدأ منذ شروق شمس ذلك اليوم، تغيير تشير إليه طريقة أداء الصلاة فيه.. فتكبيراتها تختلف، وفيها تقدّم الصلاة على الخطبة... تغيير تمثل بمظاهر الفرح والبهجة حين كان فيه الفتية الأحباش يرقصون ويلعبون، وتقف أم المؤمنين عائشة تنظر إليهم، وهي تقف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وتمثل في غناء الجاريتين في بيت عائشة والرسول صلى الله عليه وسلم موجود... وتمثل في ذهاب الكبار والصغار رجالاً ونساءً حتى الحُيّض منهنّ إلى موقع ذلك الحشد الفريد الكبير(المُصلّى) ليشهدوا الخير وليحسوا بالسعادة... إنه ليس يومًا كسائر الأيام.. وكأن لسان حال ذاك اليوم يقول للمسلمين.. أنا لا أكون عيدًا ما لم تميزوني بتغييرات في حياتكم ومظهرها الخارجي... ففي رمضان أمسكتم عن الطعام والشراب طاعة وتقربًا إلى الله.. والآن هيا كلوا واشربوا طاعة وتقربًا إلى الله... فهما هدية منه إليكم.. ولذلك لا يجوز الصيام في ذلك اليوم لأن صائم ذلك اليوم كأنه، بفعله ذاك، قد رفض هدية الرحمن... وفي رمضان كنتم تصومون وتقومون للوصول إلى التقوى التي هي الهدف من الصوم.. واليوم أظْهِروا هذا الهدف تعاونًا وتراحمًا وفيما بينكم، وتلمّسًا لمشكلات بعضكم بعضًا وسعياً لحلها حتى تجعلوا الفرحة جلية على وجوهكم ولو أنها نبتت من بين الآلام والأحزان...



والتغير مهم جدًا في حياة الناس "إنَّ اللهَ لا يُغيّر ما بِقومٍ حتى يُغيِّروا ما بِأَنْفُسِهم" وبالتغيير لا تتحكم فيهم عادة واحدة، يصبحون منقادين لها... والتدريب على التغيير هو منح الإنسان قدرةً على الانتقال من عادة إلى أخرى أو من حال إلى حال، وهذا ما يطلق عليه "القدرة على التكيف والتلاؤم" وهو خير حين يكون في فيه مصلحة..... والتغيير مهم في استمرار حيوية الأمة وبقائها... وبذلك يتمكن المسلم من تكييف واقعه ليتناسب مع كل ما يتطلبه واقع إخوانه المسلمين، فيصبح يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، وفيه تتغير النفس الشحيحة البخيلة، لتصبح معطاء كريمة.. وتتغير النفس الجبانة الخائرة، لتصبح مقدامة شجاعة.. وتتغير النفس الهلوعة الجزوعة، لتصبح صابرة محتسبة... وتتغير النفس الأنانية إلى نفس مُفْعمة بالإيثار والغيرية...



والعيد الآخر هو عيد الأضحى، الذي يأتي في ثنايا أيام كلها عبادة... أيام تقرب إلى الله... ونبذ لسلطان العواطف وحظوظ النفس... واجتماع أفراد الأمة قاطبة من كل أصقاع الأرض... فيه من المزايا ما يشحذ النفس البشرية، تنطلق من دائرتها الشخصية لتعبر الآفاق التي وفد منها الحجيج.. فيه تبتهج جزلة بتحقق الأخوة في الله. ... كما أن فيه يُتاح لخبرات جميع الحاضرين في هذا الملتقى العظيم أن يتم تبادلها فيما بينهم في هذا اليوم... وفي عيد الأضحى وما يسبقه من أيام وما يتلوه مظاهر عديدة للتغيير...فأي عيد يمكن أن يكون أنجع للأمة وأبهج لنفوس أفرادها من هذا اليوم...؟!



فأيام الأعياد يجب أن يعيشها المسلم في سعادة وطُمأنينة وبهجة؛ حتى ولو كانت تحف به المشكلات والمخاطر، لأنها فيها، أولاً وأخيرًا، يزول ما به من آلام، أو تُخفّف عنه.. تلك الأيام هي بحق أيام عيد له مهما كانت أحواله.. فلننظر هل يعيش الواحد منا تلك المعاني؟!
الجمعة يوم عيد افطر لعام 1431                                      محمد جميل جانودي



وداعًا يا رمضان


وداعًا أيُّها الشهرُ الكريم...



وداعـــأ أيُّـها الشَّهْـرُ الْكريـمُ          فَحُبُّـــكَ في حَنَـايـــــــانـا مُقـيْـمُ

وداعــًا، لَمْ تـدُمْ فينــا طويْلاً            مَرَرْتَ كمَا يمُــرُّ بِنــا النَّسيْـمُ

 نُحِـسُّ بِــهِ فَيُنْعِشُنـا ويمضي         تظـــلُّ قُلُـوبُــنـــا فيــهِ تهيْــــــمُ

أَتَيْـتَ ونَحْنُ بِالأَدْرانِ نشْقـى            فأسْــعَـدَنا التَطَـهُّــرُ والنَّعيْــمُ

أتـيْتَ ونحنُ في الدّنْيا أُسارى        لأَنْفُسِــنا، وتُنْهِــكُنا الهُمــــــومُ

فحَطَّمْــتَ القُيُــودَ فما عَملْنَـا          بِمـا يُمْليْـــــهِ شَيْطـانٌ رجيْــــمُ

نَعِمْــنا بالسَّعَـادةِ في قلُــوبٍ           فليــْسَ بِهــا عليْــــلٌ أَو سقيْــمُ

أَتَيْـتَ ونَحْنُ في فِتَــنٍ كَلَيْــلٍ          يَحَــارُ بِــها الْمُحَنَّــــكُ والْحليْـمُ

كُفِيْنـا شَـــرَّهــا لَمَّـا احْتَوتْنـا       ظِلالُكَ أَيُّــها الشَّهْــــــرُ الْكَـريْــمُ

أَتَيْـتَ وقدْ قَعَـدْنا عـن جِهَــادٍ        فَلَـم نَعْـبَأْ بِمــــا فعَــلَ الْغَشُـــــومُ

يُرِيْـــــنا أنّ فيْكَ اللهْــوَ يَحْـلُو       ويَـكْفـي أنَّ مِعْـــدتَنـا تصُــــــومُ

سَمَـونا إذْ مَـرَرْتَ بِنَـا بِبَــدْرٍ         وبــــدَّل حالَنــا الْفَتْــحُ الْعظيْـمُ

فأَصْبَحْنــا فَـوارِسَ لا نُبَــالي         بِجَعْجَعَــةٍ يُــــــردّدُهـا ظلُــومُ

رَحَلْــتَ ونَحْنُ في خَيْــرٍ عَميمٍ         تُرى هَلْ حَالُنـا هــذي تـدومُ؟

أَنَبـقى والنّفــوسُ بِـهَا صــفَــاءٌ       فـــــلا حِقْــدٌ ولا حَسَــدٌ ذميْـمُ

وهَـلْ تبْقى لَنــا هِمَـمٌ عَـوالٍ            فلا تَرْقــى لِمَوْقِعِهــا النُّجـومُ

وهَـلْ نبْقــى كُمــاةً في إبَـاءٍ            ودَيْـدَنُنا الدِّفــاعُ أوِ الْهُجــومُ

دِفــاعٌ عَنْ كَـرامَتِنـا بِعَــــزْمٍ             إذا ما مَسَّهــا وغْــــــدٌ لئيْــمُ

ونَهْجُــمُ بالْحقيقَــةِ في مَضَـاءٍ        ونَنْشُــرُها، ألا نِـــعْــمَ الْهُجـومُ

وهَـلْ تَـزدانُ دَعْـوتُنـا بِحِـلْمٍ          وبِشْــرٍ، أَم يُشَـوِّهُهـا الوجُـــومُ

وهَـلْ بِالْعَـدْلِ نَحْـكُمُ إِنْ حَكَمْنا       وبِـالإِنْصَــافِ دنْيَـانـــــا تقُــومُ

وهَـلْ إنْ عُـدتَ تُبْصِرُنـا بِخَيْـرٍ     كَمَـا فارَقْتَ، ..أَمْ لا؟ يا كريْــمُ

                                                 شعر/محمد جميل جانودي
*********

الجمعة، 3 سبتمبر 2010

الخاطرة الخامسة

 بسم الله الرحمن الرحيم
الصيام مدى العمر!!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قال الله: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به"

والصوم هو الإمساك والترك، قال تعالى في سورة مريم:(( وإمّا ترَيِنَّ من البشرِ أحدًا فقُولي: إنّي نذَرْتُ للرَّحْمنِ صَوْمًا فَلَن أُكلّمَ الْيَوم إِنْسِيّا)) الآية ٢٦، وبالمصطلح الشرعي الإمساك عن الطعام والشراب وجميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

ولأن ترك الطعام والشراب لا يُمكن أن يُراءَى به؛ فقد جعل الله جزاء صوم رمضان له وحده، كما ترك جزاءه من غير تحديد لكيفية أو كميّة، وإن كانت الأحاديث قد أشارت إلى بعض وجوه هذا الجزاء..

وعليه فالصوم يتجلّى فيه الإخلاص لله بصورة أدق من الأعمال الأخرى..لأن جميع الأعمال ما عدا الصوم يمكن أن يشوبها الرياء...

ولما كان الطعام والشراب شهوة جسدية عند الإنسان، إضافة إلى كونها دافعًا فسيولوجيًا، فيمكن القول: الصوم هو حَمْلُ النفس على ترك هذه الشهوة، التي تلبي حاجتها إلى الطعام والشراب. وتأتي مثوبة الله للصائم على الوجه المبين في الحديث لأنه ترك هذه الشهوة وابتعد عنها في ظرف زماني حرمت فيه.

والامتناع عن أي شهوة، قد حُرّمت في ظرف زماني أو مكاني أو حاليّ ( أي في حالة معينة)، أو حُرّمت على الإطلاق، وكان للجسد حاجة إليها، هو صوم له أجر وجزاء.

رُبما يتجلّى لنا ذلك إذا أنعمنا النظر في النصوص الآتية...و هي فقط على سبيل المثال..
(1) قال تعالى في سورة "المؤمنون": ((... والذين هم عن اللغْوِ مُعْرِضُون)) 


(2) قال تعالى في سورة الفرقان: ((والّذينَ إذا أنْفقوا لمْ يُسْرِفوا.. )) وقال (( والّذيْن لا يَدْعون مع اللهِ إلهًا آخرَ ولا يَقتُلونَ النّفسَ الّتي حَرّم الله إلا بِالحقّ ولا يَزْنُون ..)) وقال: والّذينَ لا يَشْهدونَ الزُّورَ...))

(3) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث " سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله ".. ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله.."


(4) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثنايا حديث له مع أصحابه: "... و من كف غضبه ستر الله عورته ، و من كظم غيظه ، و لو شاء أن يمضيه أمضاه؛ ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ...".


(5) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ تركَ شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه"


ففي الآيات الكريمة في كل من سورتي "المؤمنون" و"الفرقان" بيان إلى أنّ هناك أعمالاً مطلوب من المؤمن تركها، أي الصوم عنها؛ مثل ذلك: الصوم عن اللغو، والصوم عن الإسراف عند الإنفاق، والصوم عن الشرك بالله، والصوم عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والصوم عن الزنا، والصوم عن شهادة الزور... وحالات الصوم هذه ليست على درجة واحدة، كما أن بعضها ليست مقيدة بظرف أيا كان نوعه فتركها مطلوب في كل زمان وكل مكان؛ إلا ظرف الإكراه والقسر الذي وضحته الآية 106 من سورة النحل (( مَنْ كفر بالله بعدَ إِيْمانِه إِلا مَن أُكْرِه وقلْبُه مُطْمئِنٌ بالإِيْمان....)): ١٠٦

وفي الحديث الأول صوم عن شهوة عارمة تتجلى فورتها في شباب يتدفق حيوية وقوة ونشاطًا لدى الشاب، كما تتجلى في جمال رائع ومنصب رفيع لدى المرأة... والصوم هنا لظرف حالي"حال الرجل في شبابه وقوته، وحال المرأة في جمالها ومنصبها" من غير تقييد بزمان أو مكان أيضًا.

والحديث الثاني فيه حفز وتشجيع إلى الصوم عن شهوة نفسية محضة "الكف عن الغضب" و"كظم الغيظ"... كذلك غير تقييد.

والحديث الأخير عام، فيه حث على الصوم عن كل شهوة أو رغبة إرضاءً لله تعالى فتاركها معوض عنها بخير منها بكثير...

وهناك الصوم عن عقوق الوالدين، وأذى الآخرين، والغيبة، والنميمة، والكذب، والاستهزاء بالناس، والكبر، والعُجْب، والكسب الحرام، والغش، والظلم بكل أشكاله، والغدر، والخيانة، والخلف بالوعد، وحلف اليمين الكاذبة، والحلف بغير الله، والفحش والتفحش، والقعود في مجلس يخاض فيه بآيات الله... وغير ذلك من الأمور التي نهى الله عنها..

مما تقدّم نجد أنّ المؤمن يمكن أن يكون في حالة صوم دائم (بمفهومه اللغوي) طيلة عمره، وهو مأجور على هذا الصوم؛ إذا كان صومه هذا ابتغاء وجه الله...

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلّم قد نهى عن صيام الدهر بمعنى الإمساك عن الطعام والشراب، فإن الصيام عن الشهوات مدى الحياة يأتي ليحقق راحة نفسية لمن عنده رغبة في صيام دائم.
ويأتي شهر رمضان ليدرب المسلم على كل أنواع الصوم المذكورة وغيرها.. حتى ينجح في صيامه مدى الحياة.. سواء في ذلك صيام رمضان الذي هو في المقام الأول صيام عن شهوتي الطعام والشراب وسائر المفطرات، أو صيام باقي أيام العمر المتمثل في الصوم عن كل شهوة حُرمت لظرف زماني أو مكاني أو حالي أو من غير تقييد... فحري بالمسلم أن يكون صائمًا، بهذا المفهوم، العمر كله...

ثمة فرق يحسن ذكره هو أنه ليس كل صوم عن فعل هو مثل الصوم الرمضاني، فترك كثير من الأعمال يمكن أن يشوبها الرياء... كترك شهادة الزور أو الإعراض عن اللغو أو ... ولذلك ربما – والله أعلم - يتفرد الصوم الرمضاني بالخاصية " إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".



الجمعة 24/رمضان/ 1431                                       محمد جميل جانودي