الجمعة، 3 سبتمبر 2010

الخاطرة الخامسة

 بسم الله الرحمن الرحيم
الصيام مدى العمر!!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قال الله: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به"

والصوم هو الإمساك والترك، قال تعالى في سورة مريم:(( وإمّا ترَيِنَّ من البشرِ أحدًا فقُولي: إنّي نذَرْتُ للرَّحْمنِ صَوْمًا فَلَن أُكلّمَ الْيَوم إِنْسِيّا)) الآية ٢٦، وبالمصطلح الشرعي الإمساك عن الطعام والشراب وجميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

ولأن ترك الطعام والشراب لا يُمكن أن يُراءَى به؛ فقد جعل الله جزاء صوم رمضان له وحده، كما ترك جزاءه من غير تحديد لكيفية أو كميّة، وإن كانت الأحاديث قد أشارت إلى بعض وجوه هذا الجزاء..

وعليه فالصوم يتجلّى فيه الإخلاص لله بصورة أدق من الأعمال الأخرى..لأن جميع الأعمال ما عدا الصوم يمكن أن يشوبها الرياء...

ولما كان الطعام والشراب شهوة جسدية عند الإنسان، إضافة إلى كونها دافعًا فسيولوجيًا، فيمكن القول: الصوم هو حَمْلُ النفس على ترك هذه الشهوة، التي تلبي حاجتها إلى الطعام والشراب. وتأتي مثوبة الله للصائم على الوجه المبين في الحديث لأنه ترك هذه الشهوة وابتعد عنها في ظرف زماني حرمت فيه.

والامتناع عن أي شهوة، قد حُرّمت في ظرف زماني أو مكاني أو حاليّ ( أي في حالة معينة)، أو حُرّمت على الإطلاق، وكان للجسد حاجة إليها، هو صوم له أجر وجزاء.

رُبما يتجلّى لنا ذلك إذا أنعمنا النظر في النصوص الآتية...و هي فقط على سبيل المثال..
(1) قال تعالى في سورة "المؤمنون": ((... والذين هم عن اللغْوِ مُعْرِضُون)) 


(2) قال تعالى في سورة الفرقان: ((والّذينَ إذا أنْفقوا لمْ يُسْرِفوا.. )) وقال (( والّذيْن لا يَدْعون مع اللهِ إلهًا آخرَ ولا يَقتُلونَ النّفسَ الّتي حَرّم الله إلا بِالحقّ ولا يَزْنُون ..)) وقال: والّذينَ لا يَشْهدونَ الزُّورَ...))

(3) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث " سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله ".. ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله.."


(4) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثنايا حديث له مع أصحابه: "... و من كف غضبه ستر الله عورته ، و من كظم غيظه ، و لو شاء أن يمضيه أمضاه؛ ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ...".


(5) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ تركَ شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه"


ففي الآيات الكريمة في كل من سورتي "المؤمنون" و"الفرقان" بيان إلى أنّ هناك أعمالاً مطلوب من المؤمن تركها، أي الصوم عنها؛ مثل ذلك: الصوم عن اللغو، والصوم عن الإسراف عند الإنفاق، والصوم عن الشرك بالله، والصوم عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والصوم عن الزنا، والصوم عن شهادة الزور... وحالات الصوم هذه ليست على درجة واحدة، كما أن بعضها ليست مقيدة بظرف أيا كان نوعه فتركها مطلوب في كل زمان وكل مكان؛ إلا ظرف الإكراه والقسر الذي وضحته الآية 106 من سورة النحل (( مَنْ كفر بالله بعدَ إِيْمانِه إِلا مَن أُكْرِه وقلْبُه مُطْمئِنٌ بالإِيْمان....)): ١٠٦

وفي الحديث الأول صوم عن شهوة عارمة تتجلى فورتها في شباب يتدفق حيوية وقوة ونشاطًا لدى الشاب، كما تتجلى في جمال رائع ومنصب رفيع لدى المرأة... والصوم هنا لظرف حالي"حال الرجل في شبابه وقوته، وحال المرأة في جمالها ومنصبها" من غير تقييد بزمان أو مكان أيضًا.

والحديث الثاني فيه حفز وتشجيع إلى الصوم عن شهوة نفسية محضة "الكف عن الغضب" و"كظم الغيظ"... كذلك غير تقييد.

والحديث الأخير عام، فيه حث على الصوم عن كل شهوة أو رغبة إرضاءً لله تعالى فتاركها معوض عنها بخير منها بكثير...

وهناك الصوم عن عقوق الوالدين، وأذى الآخرين، والغيبة، والنميمة، والكذب، والاستهزاء بالناس، والكبر، والعُجْب، والكسب الحرام، والغش، والظلم بكل أشكاله، والغدر، والخيانة، والخلف بالوعد، وحلف اليمين الكاذبة، والحلف بغير الله، والفحش والتفحش، والقعود في مجلس يخاض فيه بآيات الله... وغير ذلك من الأمور التي نهى الله عنها..

مما تقدّم نجد أنّ المؤمن يمكن أن يكون في حالة صوم دائم (بمفهومه اللغوي) طيلة عمره، وهو مأجور على هذا الصوم؛ إذا كان صومه هذا ابتغاء وجه الله...

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلّم قد نهى عن صيام الدهر بمعنى الإمساك عن الطعام والشراب، فإن الصيام عن الشهوات مدى الحياة يأتي ليحقق راحة نفسية لمن عنده رغبة في صيام دائم.
ويأتي شهر رمضان ليدرب المسلم على كل أنواع الصوم المذكورة وغيرها.. حتى ينجح في صيامه مدى الحياة.. سواء في ذلك صيام رمضان الذي هو في المقام الأول صيام عن شهوتي الطعام والشراب وسائر المفطرات، أو صيام باقي أيام العمر المتمثل في الصوم عن كل شهوة حُرمت لظرف زماني أو مكاني أو حالي أو من غير تقييد... فحري بالمسلم أن يكون صائمًا، بهذا المفهوم، العمر كله...

ثمة فرق يحسن ذكره هو أنه ليس كل صوم عن فعل هو مثل الصوم الرمضاني، فترك كثير من الأعمال يمكن أن يشوبها الرياء... كترك شهادة الزور أو الإعراض عن اللغو أو ... ولذلك ربما – والله أعلم - يتفرد الصوم الرمضاني بالخاصية " إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".



الجمعة 24/رمضان/ 1431                                       محمد جميل جانودي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق