الخميس، 25 ديسمبر 2014

يا واديَ الضيف....

يا وادي الضيف...
يا واديَ الضيف إن الضيفَ قد نزلا****واللصّ عنك قُبيل الفجـــر قد رحـلا
كم كان ضيفُك مُشتــاقًا لنيــلِ قِــرًى****من راحتيــك، وما يرضى له بـَــدَلا
يا وادي الضيفِ قم للضيفِ تكرمـةً****كم جــاد بالنفس والغالي وما بخـــلا
رحّبْ بضيفك وانثرْ فــوقــــه دررًا****فالضيفُ كان خمـيسًا رائـــدًا بـطــلا
للــهِ درُّ خمـــيسٍ ضـــــمّ كوكـبـــةً****للناس قد أصبحـتْ في بأسهَــا مثـــلا
بيضٌ وجــوهُهمُ، سـمْــرٌ زنـُــودُهمُ****سمـــاؤهم حُفـــظت، وأرضُهــم ذللا
حُمـــرٌ سيــوفهمُ، خُضــرٌ مرابعُهم****أبطــالُ مَلحمـــةٍ، قد مهّــدوا السُّبُـــلا
عند اللقا صُدُقٌ، وفي الوغى صُبُرٌ****عفّت نفــوسهمُ عَـــما حـــلا وغـــــلا
راياتهــمْ وُحّدت، قلــوبـُـهم أَخبـتتْ****للـــه خالـــقِـهم، قــــد طلّقوا الجـــدلا
صفوفُهم طُهّــرت من كلّ شـــائبــةٍ****ما كان منقطعــًا قد صار مُتّصــــــلا
لم يصرفوا همّهم لقــولِ ذي سفـــهٍ****يروغُ في قـــولِه، ويمتَـطي الحِــيَــلا
كالأسْــدِ قد ربضت، ثارت شهيّتُها****لمجْــــرمٍ قــــذِرٍ فـي طبْعـــه سفــــلا
تــدوســـه  ذلّــةً، تُذيْــقُـــه علْقـــمًا****تصــليه من جمرها، تعـــافُــهُ أكُــــلا
كم جنْدلوا من رؤوسِ البغي قاطبةً****فــأزكمتْ ريحُهم ســــهلًا تلا جَبَــــلا
ما رام ضيفُــكَ إلا أن يـــــــكونَ له****سبـــقٌ لطرد عـِـدًا، أكـرمْ بما فعــلا
لمْ يـــأتِ نصــرُهــمُ من غير تهيئةٍ****بل إنّ وحــدتهم أحـــيَــت لهم أمــــلا
سمتْ نفــوســهمُ عن كل مهْـــــزلةٍ****بفضـــل إيمـــانهـــا قد أشــرقتْ مثُلا
الحــــلمُ زيَّنهــم والصــبرُ جمّـــلهم****والعفْوُ من طبعهمْ عن كلِّ من جهِــلا  
همْ فتيــةٌ هَـــجــروا لذيذ عيْشــــهمُ****من أجـــل أُمتِهـــم، لم يعرفوا الكسلا
يا ثائرون على طُغــــاةِ عصرهـمُ****كونوا على حــذَرٍ، يا بُؤس من غفــلا
فاللــه أعطــاكمُ درسًا لـــه عبــــرٌ****فلتحفظوا الدرس حتى تُبْعِـــدوا الزّللا
إن شئـتُمُ، إخوتي، نصرًا يُحالفــكم****فانفــوا عــدوًا إلى صفوفكم دخــــــلا
واستمسكوا بِعُرى الرّحمن بارئكم****ما خاب مَنْ لِعُـرى الرحمن قد وصلا
الجمعة 27 صفر/1436 الموافق 19/ كانون الأول/2014

الأحد، 14 ديسمبر 2014

أخوة الإيمان

أخوّة الإيمــان....
للإيمان حلاوة وطلاوة، ولإخُوّة الإيمان نداوةٌ وطراوة...وللإيمان، إن كان صاحبُه صادقًا، أثر في القلب لا ينمحي، مهما تناوشته الأدران، وغشته عوامل الرّان...ولإخوّة الإيمان روح تسري في عروق المتآخين، مضمخة بالعطر والمسك والرياحين، فتجعلهم يتنافسون في الحبّ والإيثار، ويتسابقون لخدمة بعضهم في الليل والنهار، حاجاتهم بسواعدهم مقضية، وخلافاتهم الدنيوية مطوية، قُوتهم لا تُقهر، ومآثرهم لا تُنكر، حبهم لبعضهم عظيم يستمد عظمته من عظمة حبهم لله، وحُبّهم لله لا يعلم أحد إلا الله مداه، ولهذا كان أحبّ شيء للشيطان هو التحريش وإفساد ذات البين، وأبغض شيء عنده هو الإصلاح بين المتخاصمَين أو المتدابرَيْن... وللسبب نفسه يحرص الأعداء على اقتلاع شجرة الأخوة من أصولها، وتتبع فروعها وذيولها، فلا يدَعون لهذا الغرض دربًا إلا يطرقونه، ولا ناعقًا بذلك إلا يتبعونه، لكنهم في حُسبانهم واهمون، وفي مسعاهم خائبون....فقد قال الله لسيدهم إبليس من قبل: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، فأنّى لأتباعه أن يكون لهم ما عجز أن يحوز عليه سيدهم... هيهات هيهات...    
أُخُــوّةُ الإيمــان
حلّقْ بروحك في سما الإيـمـــانِ****وانعمْ بــه في جنّــةِ الرضوان
واهنــأ بعيــشٍ في ظلال محبّـةٍ****مع إخـوة، طوبى لذي إخــوانِ
معهم تـــــــكون معلّما مُتـــعلّمًا****فهمُ منابـــع أبحــر العـــرفــانِ
وبهم تُحسُّ بأن رأســـك شامــخٌ****وبأن ركنــك أمتــــن الأركانِ
وبأن ريحَـــك طيّــبٌ ومطَـيّــبٌ****عبِقٌ بعِــطر المسك والرّيحانِ
فأخُــــوةُ الإيمان ليس كمثْــلـــها****في صقل نفسِ مُعذبٍ حيـرانِ
وأخــوةُ الإيمـــان نجْــــمٌ ساطعٌ****يهدي إلى أمن الورى وأمــانِ
هي خيــمةٌ يــأوي إليـها مُتعَــبٌ****فتقيه غــــدر الماكر الخـــوّانِ
هي موئل المُستضعفين وحصنهم****وملاذهم، هي مَورد الظمآنِ
هــيَ جَـنّةُ الدّنيا لِمن ضاقــت بـهِ****أفنـــاؤها، فتَــضُمّــهُ بحنــانِ
اللــه أحكمَ عـقــدهــــا وربــاطَهـا****بين القلوب بمُحـكــمِ القـرآنِ
حصَرَ الأُخُـــوّةَ في شبابٍ مازهم****عـلمٌ وإخلاصٌ مدى الأزمانِ
هُـمْ ثُـلّة في الآخِـرين وأمرهم****شورى،وهم حربٌ على الطّغيانِ
آخــاهمُ حبُّ الإلـــه ودينـــــــــــهِ****لا حبّ فــرعـونٍ ولا هامانِ
فإذا التقــوا فعــلى موائــدَ تستقي****شــهدًا لها من أعذب الغدران
وإذا تنَــــــاءوا فالتفــــرّقُ للجسو****مِ، وإنـما تتعـــانق الروحـان
فـالمــرء فيهــــمْ أُمّــــةٌ وبدونهــم****صفرٌ يؤول لعـــالم النسيــانِ
يغـدو مع الإخوان صرْحــًا شاهقًا****بعزيمةٍ أقوى من الصـــوّانِ
وبغيرهم هـــو ريشةٌ تـرمي بِـــها****ريحُ السّموم بحمــأة القيعانِ
إنّ الأخُــوّة نعـــمــةٌ ما فــوقــــها****من نعــمةٍ إلا رضا الرّحمن
هي نعْـــمَـة، والحاسدون لأهــلها****يسعون في إيـــذائهم بهــوانِ
يا جاهِــلون بنعْــمةٍ مُنِحَـــت لكم****من عالِمٍ بـــمصــالحِ الإنسانِ
نعمـاؤه ظهـــرت بديْــــنٍ كامــلٍ****بالقسط جــاء ودقّـــة الميزانِ
وشريعَــــةٍ غـــرّاء كان قوامُـــها****هـدْيَ الكِتـابِ وسنّةَ العدناني
لا فـــرق بين الناس في أعراقـهم****وتفاوت الأجــنــاس والبلدانِ
أكْــرمْ بِها من شِرْعــةٍ قد كرَّمتْ****أهل التُّقى والنّفــــعِ للأوطانِ
يا جــاهِـــلون بــدُرّة مكنــونَـــــةٍ****أغلى منَ الياقوتِ والمَرْجانِ
عودوا لِــرُشـدِكمُ ولا تسعـوا إلى****التقليـــد مثل البُكمِ والعميــانِ
عودوا قُبَيْلَ رحيلكم عن ذي الدنى****ووقوفِكم في حضرةِ الدّيـانِ
وقِفُــوا بصـفِّ الْمخْبِتيْــن لربِّــهم****فهُـمُ غَدوا في قبضةِ السَّجّانِ
في كلّ يــومٍ تُهمــة تُرمـى لهـــم****من غيْـر تبيـانٍ ولا بــــرهانِ
حيـــــنًا بتشويــــه لهم في قـولهم****أو فعلهــــم أو حَرْفِهمْ لمعـان
حينًا بتألـيب الأعــــادي ضــدهم****ويُخوِّفونهمُ مــنَ الطّـــوفـــانِ
في بـوق إعْـــــلامٍ وزفـرةِ حاقـدٍ****متسلحيــــن بنفخــة الثُعبـــانِ
هــي سُنّــةُ الرَّحمن في أنْ يَبتلي****أحبابَه بالنّــقصِ والحِـرْمَـــانِ
أوْ ظـلْمِ ذي رحــمٍ وهـجرِ قرابةٍ****وأذيّـــــةٍ تــأتي من السّــلطانِ
يبــلوهمُ ليرى سلامــــة صدرهمْ****من كلّ شـائبةٍ من الأضغــانِ
ما كان يُعـــنتهم ويُكرههــم على****أمْـــرٍ يُبــاعِدُهم عنِ الإحسانِ
بــلْ إنّـــهُ يَجــلُـــوهمُ ويُعِـــدّهُــمْ****لِـــدُخـــولِ جنّــتِـهِ بلا أدْرانِ
ويُقـيــمُ حـجَّتــهُ عـلى مَن رامهمْ****بالسّوءِ، أو بشراسـةِ الْعـدوانِ
فيُذيْقُهمْ منْ سوء ما اقترفوا لظًى****يصْلَونَ فيهــا شـــدّة النيْـرانِ
فهــمُ الّــذيْــنَ اسْتنفَــروا أجنادهم****حــربًا على ديـْنٍ رفيعِ الشّانِ
وعــلى الّذين اسْتمْسكوا بحبَـــالِهِ****وأبَـوا حيــاةَ الذّلِّ والقُطعــانِ
خافوا الأخُـــوّة أن تلفّ حِــبالهـا****حولَ الرّقاب لزمرةِ الشيطانِ
خافوا الهدايــةَ أن تُنوّر قلب من****ظنــوهم يومـــًا من الأعــوانِ
أو أنّ ســـحــرهم يعود عـــليهمُ****شــرّا، وينقلبُــون بالخـــسرانِ
وإذا بهم قـــد أجلبـــوا بخــيولهم****ورجالهم، وتــوافـــه النسـوانِ  
ونســوا بأنّ اللهَ نــــاصــرُ دينــهَ****مهما جرى في دورة الحدثانِ
ذا وعده، وغدًا سينجـــزُ وعــده****ووعيـــدُه للمفتـري والجــاني
السبت 21/صفر/1436 الموافق 13/كانون الثاني/2014






الجمعة، 12 ديسمبر 2014

أعمدة الحياة الثلاثة (حسن العبادة)

أعمدة الحياة الثلاثة (حسن العبادة):
قال الرسول صلى الله عليه وسلّم لمعاذ: أوصيك بألا تدعنّ في دُبر كل صلاة أن تقول: اللهمّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.
كلمات قليلات، أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم حبيبه معاذًا، بعد أن حفز كل عرق فيه، وكلَّ جهاز استقبال، أن يستعد ويتأهب للأخذ بهذه الوصية، كان ذلك حين أمسك بيده يداعبه، ثمّ أخبره بأنه يحبه...
يا معاذ، اسأل ربك بعد أن تفرغ من كل صلاة أن يعينك على فعل أمور ثلاثة...أمور حددها له، فكم هي، إذن، مهمة في الحياة، وكم هي من الثقل والضخامة حتى تحتاج إلى تأكيد طلب العون من الله لأدائها وباستمرار.
قد تم المرور بسرعة على العمودين الأول والثاني؛ "الذكر" و"الشكر" في الإشراقتين السابقتين.
ثالثًا: حسن العبادة.
العبادة في الإسلام كلمة جامعة، شاملة لجميع مناحي الحياة للمسلم. فهي لا تقتصر، كما يظن بعض الناس، أنها تعني إقامة الصلوات المفروضة، وأداء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت...بل هذه تدريب عملي ونفسي لغيرها...
إن المسلم يكون على مدى اليوم والليلة في عبادة، (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)، فهو يستيقظ وفق سنة الله في ذلك، فيحمد الله أن أحياه بعد أن أماته، فهذه عبادة، ثم ينطلق ليطيع الله فيما أمره من وضوء وصلاة وذكر، وهذه عبادة، بعد ذلك يتوجّه إلى عمله، أيًّا كان ذلك العمل، منتشرًا في الأرض ومبتغيًا فضل الله ورزقه فهو في عبادة (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)، ثم يعود إلى بيته وقد حمل معه ما يحتاجه البيت من متاع وأغراض، فهذه أيضًا عبادة، ويدخل بيته مبتسمًا بإشراقة وجه بهية، يُدخل بها السرور إلى جميع أفراد الأسرة فيؤدي عبادة، ثم يقعد معه ويتناول طعامه معهم، وبعد ذلك يُحدثهم مسليًا أو معلمًا أو موجهًا أو ناصحًا، أو ملاعبًا ومُداعبًا، فذلك كله عبادة، ثم يقوم ببعض الزيارات لأرحامه وأصدقائه، وربما، إن أمكنه، يحمل معه بعض الهدايا، فتلكم عبادة، وفي طريقه يميط أذٍى يراه في الطريق، أو يُعين ذا حاجة، أو يدل ضالًا للسبيل، أو يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكر، فذلك كله عبادة، وفي نيته ألا يُطيل غيابه عن بيته ليعود ويطمئن على أن كل من في البيت، مستعد لأن يأوي إلى فراشه، وليس ثمة من همٍ أو غم أو حاجة له يجب أن تُقضى، فنيته تلك عبادة، وفي أداء الحقوق لزوجته، ولمن يعول عبادة، وفي نومه وهو ينوي أن يأخذ نصيبًا من الراحة ليستأنف عمله في الغد بهمة عالية ونشاط كبير، عبادة، يُلخص ذلك أنه وقف نفسه وحياته لله تعالى يعمل ما يُرضيه، ويبتعد عما يُسخطه.
وحُسن العبادة، هو أداء جميع ما مرّ ذكرُه بإتقان، وإخلاص، فلا يكون عمله لإسقاط العتب عنه، ولا يبتغى به أحد غير الله. فحسن الاستيقاظ في البكور، وحسن الصلاة بأدائها على الوجه الصحيح، بإتمام أركانها، وواجباتها، وسننها، بعد أن تُسْتوفى شروطها، وحسن الزكاة أداؤها من خير المال كاملة غير منقوصة، وحسن الصيام التقيّد بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بشأنه عملًا وخُلقًا، وحسن الحج أن يكون من مال حلال، خاليًا من أي رفث أو فسوق أو جدال، وحسن عبادة العمل أن يُؤدى كاملًا من حيث الزمن ومن حيث الجودة، يستوي في ذلك التاجر في متجره، والمدرس في مدرسته، والمهندس في مشروعه، والطبيب في مشفاه، والصيدلاني في صيدليته، والأجير فيما أُسند إليه من عمل، والمرأة في بيتها، أو مقر عملها، والجندي في ثكنته، والعالم في علمه ونشره، والقاضي في دار قضائه، والحاكم في تسيير شؤون البلاد بأسرها، والمحكوم في الطاعة بالعروف..... وهكذا
ومن المفيد والشعب السوري يخوض معركته لنيل حريته، وبسط العدل في ربوع بلاده، وهي معركة، كما هو واضح تجاوزت الحدود الجغرافية لسورية، أقول: من المفيد أن نشير إلى حسن عبادة الثوار وهم في الميدان، يكون ذلك بأن يتحدوا ولا يتنازعوا، وأن يطيعوا قادتهم بالمعروف، وأن تبقى عيونهم مفتوحة تحرس وتراقب، وألا يغلّوا، ولا يظلموا، وأن يأخذوا حذرهم فلا يدعون ثغرة يمكن أن يُختَرَقوا من خلالها، فيضيع ما عملوا، ويحبط ما صنعوا، وأن يتحابوا فيما بينهم، حتى يكونوا كالبنيان المرصوص، والجسد الواحد.

وبقدر ما تكون العبادة حسنة تكون نتائجها طيبة، وثمارها يانعة. فما أعظم هذا النبي الكريم، وما أبلغه، حين أوجز ما سبق ذكره هنا وفيما سبق عن الذكر والشكر، بكلمات قليلات في العدد، كثيرات في المدلول والمعنى والفائدة. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. 

الجمعة، 5 ديسمبر 2014

أعمدة الحياة الثلاثة (الشكر).

أعمدة الحياة الثلاثة (الذكر والشكر وحسن العبادة):
قال الرسول صلى الله عليه وسلّم لمعاذ: أوصيك بألا تدعنّ في دُبر كل صلاة أن تقول: اللهمّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.
كلمات قليلات، أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم حبيبه معاذًا، بعد أن حفز كل عرق فيه، وكلَّ جهاز استقبال، أن يستعد ويتأهب للأخذ بهذه الوصية، كان ذلك حين أمسك بيده يداعبه، ثمّ أخبره بأنه يحبه...
يا معاذ، اسأل ربك بعد أن تفرغ من كل صلاة أن يعينك على فعل أمور ثلاثة...أمور حددها له، فكم هي، إذن، مهمة في الحياة، وكم هي من الثقل والضخامة حتى تحتاج إلى تأكيد طلب العون من الله لأدائها وباستمرار.
قد تم المرور بسرعة على العمود الأول "الذكر" في الإشراقة السابقة.
ثانيًا: الشكر.
اللهمّ أعني على شُكرك، بعضهم يسأل: وهل الشكر سوى بضع كلمات يرددها اللسان، مثل: الحمد لله، أو الشكر لله، أو ما شابهها من عبارات أخرى تقوم مقامها... كلمات يسيرة ..أتحتاج هذا التركيز والحث من الرسول صلى الله عليه وسلم لحبيبه أن يطلب العون من الله لأداء هذا الشكر... وإن كان كل عمل مهما كان سهلًا أو يسيرًا فإنه بغير عون الله تعالى لا يمكن للمرء أن يقوم به.... إلا أن هذا التخصيص والتوصية يعنيان أن الأمر أكبر من أن يكون كذلك...
نعم إن من صور الشكر تلك الكلمات... ولكنها تفقد بريقها وآثارها العظيمة حين لا يكون عمل اللسان مربوطًا بالقلب، القائد الأعلى لكل جوارح الإنسان... فمثلًا حين تريد أمرًا من جهة ما، ويأتي أحد العاملين العاديين فيها ويعدك به، فأول ما يتبادر إلى ذهنك سؤاله: أهذا الوعد من عندك أم بإذن وتوجيه من المدير العام؟ فإن عزا الأمر إلى المدير العام أيقنت أن نفاذه قطعي، وأن حاجتك ستُقضى، فتغدو مطمئن النفس، أما إذا علمتَ أن ذاك الوعد هو من عند ذاك الموظف فقط، فتبقى غير مطمئن إلى أنك ستحصل عليه... وهنا القلب هو المدير العام، والقلوب، كما ورد في الحديث، بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلبها كيف يشاء، فلا يملك اللسان أن يتوجه من قبله إلى بعون من الله تعالى.
والعون من الله، سبحانه وتعالى، على أداء الشكر يتضح بجلاء حين ننتقل إلى الصور الأخرى من صور الشكر وحالاته، والتي هي أهم بكثير من الصورة القولية. فالشكر يكون على النعمة وإسباغها على الإنسان... وما أكثر تلك النعم!!! فالصحة نعمة وشكرها يكون في استخدامها في مرضاة الله، والابتعاد عن سخطه، فلا يستخدم اللسان في غيبة أو كذب أو نميمة، أو تحريش بين الناس، أو تأييد لباطل، أو مدح وثناء على ظالم، بل يتمثل الشكر على صحة اللسان بقول الصدق، وإصلاح ذات البين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذب عن عرض كل مؤمن، وكذلك يكون شكر اليدين باستخدامهما في إعانة الضعيف، ومنع الأذى، وكتابة الكلام الطيب، و... والشكر على صحة الرجلين بالمشي عليهما للمساجد، وزيارة الأرحام والأصدقاء وصلتهم، والجهاد، و... وشكر صحة العينين أن ينظرا في المصحف لتلاوة القرآن، والبكاء من خشية الله، والسهر للحراسة في سبيل الله، وعدم النظر بهما إلى ما حرّم الله.... وهكذا يكون الشكر بالنسبة لصحة باقي أعضاء البدن...
ومن صور الشكر؛ الشكر على الغنى، ويتمثل في الإنفاق في سبيل الله، المحقق في الجهاد لإعلاء كلمة الله، وإطعام الجائع، وإكساء العريان، وإيواء الطريد الشريد، وفتح السبل للتعليم، وعمارة مساجد الله، عمارة مادية ومعنوية، والقيام بالمشاريع التي يعود نفعها للناس كافة، كحفر الآبار، وبناء المستشفيات وتجهيزها، وبناء المدارس، ودور الرعاية....والتحري بدقة عن أولئك الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، فيكفونهم المؤونة، ويكفّونهم عن الاضطرار إلى المسألة... و....
ومن صور الشكر؛ الشكر على العلم، فالعلم من أكبر النّعم التي يهبها الله لعباده، والشكر هنا يتمثل في بذله لمن يحتاجه، والصدع به، وعدم كتمانه، والعمل به، من غير خوف ولا وجل، والحفاظ على حقيقته ومدلوله من غير تحريف أو تبديل، وغير ذلك...
ومن صور الشكر؛ الشكر على نعمة الأبناء والبنات، والإخوة، والأصدقاء، ويمثل الشكر هنا في تربية الأبناء تربية صالحة تفضي بهم إلى أن يكونوا لبنات قوية في المجتمع، ينفعون سواهم من مكونات هذا المجتمع، وفي الحفاظ على الأخوة والصداقة بأداء كل ما تتطلب من حقوق وواجبات....
وهناك صور كثيرة للنعم ولشكرها، ولكن أهم نعمة تستحق الشكر الأعظم والأكبر هي نعمة الهداية إلى الإسلام، الذي فيه فلاح الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة، ويتمثل شكر هذه النعمة بالالتزام به بقوة، والعمل بتشريعاته، والتحلي بأخلاقه وآدابه الشخصية والأسرية والمجتمعية، والعمل على إيصاله للآخرين بالحكمة والموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة، والقدوة الصالحة، وعدم تنفير الناس منه بأفعال خاطئة، وأفهام سقيمة....ويكون شكر هذه النعمة، أيضًا، بالذب عن هذا الدين العظيم، علميًا، وفكريّا، وماديًا، بالمناسب من الطرق والوسائل والحجج...
وصور الشكر كثيرة بكثرة النعم التي لا تعد ولا تُحصى، وكما رأينا، فإن أداء هذا الشكر بالذي تم بيانه، لا يمكن أن يكون بغير توفيق من الله وعون ومدد... وهذا ما يجعل المرء يفهم، بجلاء، وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ، رضي الله عنه.