الثلاثاء، 19 يوليو 2011

همسة محب...على طريق الثورة


همسة محب ...على طريق الثورة
في عالم التجارة والمال... يكون للمرء أولويات، فهو يقدم الربح الأكثر على ذاك الأقل... ويقدم الربح عامة على أي خسارة، كما أنه يختار الصفقة ذات الخسارة الأقل على تلك التي خسارتها أكثر إن كان لا بد من ذلك... والأمر نفسه في عالم الوقت والزمن فهو يختار العمل الأنجع والأكثر الذي يُنْجَزُ في زمن أقل.. إنّه لا يهدر الوقت بما لا طائل وراءه، أو بما كان نفعه قليلاً...لأن هدر الوقت هو هدر للحياة..
ولا يمكن لعاقل أن يقول غير ذلك... فما لنا نرى هذه القاعدة تختل موازينها، وتنعكس مفاهيمها في مجال آخر؟!
منذ أن أشرقت شمس الثورة السورية على الدنيا، وعمّ ضياؤها الأرض،،وأخذ أريجها يملأ التلال والوهاد، والحواضر والبوادي....كان ذلك يترافق مع طاقات هائلة لدى أداتها الفعالة، وهي الشباب الثائر الذي ينشد غاية واحدة لا غير... ينشد الحرية التي يندرج تحتها..تخليص الإنسان من أي عبودية لغير الله تعالى...وتتمثل في إسقاط الظلم بكل صوره وأشكاله، وإسقاط التفرد الدائم والمستمر بأمر ما؛ حتى ولو صدر من عبقري... وإسقاط الفساد وأدواته.. ويندرج تحتها أيضًا الحياة الكريمة العزيزة لجميع أفراد الشعب السوري على مختلف انتماءاتهم، وتباين مناطق وجودهم على تراب سوريا كافة...
وذَهَلت الثورة كثيرًا من الناس، وجذبت إليها فئامًا من كل حدب وصوب، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.... وأخذت هذه الفئام تعمل لنصرة الثورة بما تملك من وسائل أو أدوات... ونصرة الثورة تتمثل كما سبقت الإشارة إليه بالسعي لبلوغ الهدف المنشود...((الحرية))..
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن.. هل يجوز أن يكون اسم الدولة محطة يتفرق عندها المجتمعون، وتتبدد طاقاتهم من أجله، وتتباعد النفوس قبل الأبدان بسببه؟
وليس اسم الدولة هو المعني تحديدًا، فكم من مثله سيتم التوقف عنده والثورة تشق طريقها فيما لو نجحت المحاولة... تُرى أيهما أقل ضررًا وأكثر نفعًا .. العناد والتوقف عند هذه الجزئية الصغيرة، وعدم تخطيها إلى ما ينتظر الجميع بعدها.. أم تمريرها وتأجيلها إلى البت فيها في الوقت المناسب؟
أترك الجواب إلى إخواننا وأحبّتنا الكُرد (هو الاسم الذي يُحبون أن يُسمّوا به) الذين ما أحسسنا وهم موجودون فيما بيننا على ثرى الوطن الغالي أن معنا غير إخوة وأحبة، وأصحاب أرض ومواطنين ... كانوا جزءًا من نسيج ثوب الوطن بلونه الزاهي، ولحمته القوية، لم يكن ثمة أي فرق بين مكونات ذلك الثوب.. ولاسيما بين عربه وكرده.. كان بينهم التصاهر والتزواج والتوارث والتعامل بكل صوره، والتلاقي على قيم اجتماعية وأخلاقية عديدة.. لا تمييز بين المكونين... والإخوة الأكراد يعرفون ذلك والعرب يعرفونه أيضًا.. وبخاصة بعد أن دمج الإسلام الشعبين تحت لوائه، وصهرهم في بوتقته..
يا إخوتنا الكُرد.. لستم أنتم الذين يصدر عنكم أنكم تحسون بغبن بين ظهراني إخوتكم العرب... بل ربما يبرَّرُ لغيركم أن يصدر منه ذلك (على سبيل الافتراض).. وأن يُصاب بالغيرة منكم، لما تبوأتم به من مكانة؛ ليس لأحد فضل عليكم بتبوُّئِها سوى جهدكم وإخلاصكم.. وتفانيكم في أن تكونوا الأول في البناء والتعمير والنصرة لوطنكم الذي هو وطن الجميع.. تبوأتم مكان الصدارة في نفوس جميع العرب والمسلمين بالبطل صلاح الدين، وبغيره من القادة الأفذاذ... وتبوّأتم مكان الصدارة أيضًا عندهم بالتلاحم الرائع، والتناصر المشهود؛ بينكم وبين شيخ الإسلام ابن تيمية حين واجه العديد من المؤامرات عليه وعلى بيضة الإسلام من قبل الآخرين... وتبوأتم الصدارة في جهادكم الفرنسيين إبان احتلالهم لسوريا... وزهت بكم مواقع ذات شأن في قيادة المجتمع والدولة... إلى أن جاء عهدٌ نشاز تنكر لهذا كله، وأرادكم أن تكونوا قلّة لا شأن لها.. ليدعم وجوده بذلك... فجاهدتم مأجورين تلك الفكرة الضالة.. وقدمتم الشهداء.. فبالله عليكم أيجوز أن نرى بعضكم ينقُض ما غزلتم، ويهدم ما بنيتم من أجل أمر ما له أن يكون في الثانويات فضلاً أن يكون في الأولويات...
أيها الأخوة الكرد الذين التبس عليهم الأمر، أيُعقل أن تُعَرقَل مسيرة الثورة وهي تحث الخطا نحو هدفها الأصيل من أجل لعاعة يسيرة.. وأمرها محلول، وسيكون لكم ما تنشدون من خلال إرادة الشعب السوري الذي ما أحسب أن أحدًا ينتمي إليه، ويكون مخلصًا له؛ وبع ذلك يخرج عن تلك الإرادة... .ثم إنكم لا تحتاجون من يذكركم بأن العربية ليست لأحد بأب وأم وإنما من تكلم العربية فهو عربي... وجلّكم، إن لم نقل كلكم، يتكلم بالعربية في اليوم خمس مرات على الأقل، فما أحسب أن في الأمر بأسًا أن يتضمن اسم الدولة ما يشير إلى عروبتها... فإن ذلك لا يمس من قيم أحد أو مقدساته.. 
وغني عن القول أن الثورة قد شقت طريقها نحو هدفها.. وهي محمية برعاية الله أولاً ثم بوعي الشعب بكل فئاته المتعددة.. ولن يضيرها نفخة من هنا لتطفئ جذوتها، أو حجرة هشة توقف مسيرتها...والرجوع إلى الحق والصواب فضيلة... وبقية إخوانكم من أفراد الشعب السوري يؤملون فيكم أن تُنَمُّوا خيريتكم التي ألفوها منكم، فيما مضى، لتكون شمسًا تضيء سماء سوريا إلى جانب أخواتها شموس سائر فئات الشعب ومكوناته حين تنتصر إرادة الشعب في الحرية والكرامة.. فهيا يا أحبتنا إلى روضة الشعب الغناء وانضافوا إلى أزهارها العطرة  لتكمل النكهةُ الكرديةُ نكهاتِ الأزهار الأخرى، وعندئذٍ تتقدم هذه الروضة إلى العالم، وتطل عليه بنموذج فريد لم يُر مثله منذ زمن!! فتحية إلى جميع إخوتنا الكرد وغيرهم ممن لم يسمحوا لأنفسهم أن يقعوا في ((مطبات)) وُضِعت عن قصد لإجهاض الثورة أو الالتفاف عليها... إنهم بذكائهم الفطري، وفراستهم القوية عرفوا اللعبة وما ترمي إليه.. فأفشلوها...
إنّ أصحاب النفوس الكبيرة، والهمم العالية، لا يرضون بالصغائر من الأمور، ولا يسمحون لها أن تقف عقبة في الوصول إلى النفيس الغالي... وهل عنى الشاعر غيرهم حين قال:
إذا ما كنت ذا شرف عظيم     فلا تقنَـع بِـما دون النجُوم
فطعم الموت في أمر حقير      كطعم الموت في أمر عظيم
محمد جميل جانودي

هذي حماة


بسم الله الرحمن الرحيم
هـذي حماةُ...
شعر/محمد جميل جانودي
قُمْ يَا بُنيّ فإنّ الناسَ قدْ ثَـارُوْا      أدْرِكْ مَكَانَكَ، لا يَنْزِلْ بِكَ العَارُ
أدِْركْ مَكَانَكَ فِيْهِمْ وارْقَ مَنْزِلَـةً     لَنْ يَرْقَهَا أبـدًا في الْقَومِ خوّارُ
قُمْ يَا بُنـيّ وسَابِقْ فِتْيَةً نَـذَرُوْا     للَّـهِ أنْفُسَهُمْ، للحَقّ قَـدْ ساروا
قُـمْ يا بُني فَإنّي جِدُّ مُعْجَبَــةٌ     فِيْمَاْ أَرَاهُ هُـنا يُمْضيْـهِ أَخْيَارُ
هذِي حَمَاةُ وكلُّ النّـاسِ يعْرفُهَا     بَذلٌ وتَضْحِيَةٌ ، جُـوْدٌ وإيْثـارُ
للنَّفْسِ باذِلةٌ، لِلْمَـال واهِبـَـةٌ     للِعرْضِ حَامِيَةٌ،في الخَيْر مِحْضَارُ
هَذِيْ حَمَاةُ تقومُ الْيَوْمَ قَوْمَتَــهَا     قدّ شدّ لُحْمتَهَا في السَّاحِ أحرارُ
يَرنُوْ لَهَا الْعَاصِيْ والْعَيْنُ ضَاحِكةٌ    مما يَرى فَرِحًا والدمْـعُ ثَرْثَارُ
آنَ الأوانُ لدَمْعِـي أنْ يكفَّ وأنْ     ألْقَـاكِ مُبتَسِـمًا والخَيْرُ مِدْرَارُ
آن الأوان لِحُزنِـي أنْ يُفَـارِقَنِي    مِنْ بَعْدِ مَا أَشرَقت فِيْ الأَرْضِ أقْمَارُ
هذي ضفَافِي قَدِ اخْضرّت مُنوّرةً     تَميس مِنْ فَوْقِهَا يا أمُّ أزهَـارُ
غنّتْ نَوَاعِيْرِي أحْـلى قَصائدِهَـا    أمَّ الفِـدا ِتْيهِي؛ في الشَّامِ ثوَّارُ
في الشَّامِ كَوْكبَـةٌ سادَتْ نجَائِبُهَا      تمْضي لِبُغيتهـا والبَغْي مُحْتَارُ
لا تحْسَِبي الذِّكْرى قدْ أَصْبَحتْ أثَرًا    بَلْ إنّهَا حَيّـةٌ والقَـلبُ ذكَّارُ
لمْ أَنسَ يَـوْمًا منَ الأهْوالِ حَلّ بِنَا   شابَ الْفَطيْمُ لَـهُ والشيْخُ مُنهَارُ
لمْ أَنسَ مَجْـزَرَةً حلّتْ بِدِيْرتِنـا     قدْ كانَ مُجْرمَها وغـدٌ وجَزّارُ
أُمْطِرْتِ منْ حِمَمٍ والمُمْطِرون دُمًى   يَلْهُو بأحْلامِهِمْ فِي الأرضِ مكّارُ
واليومَ نَشْهَدُ عُرْسًا لا مَثيْـلَ لَـهُ    فِيْ سَاحَةِ العَاصِيْ أشْبَالُنا ثَارُوا
 في سَاْحَةِ الْعَاصِيْ تَشْدُو حَنَاْجِرُهُمْ   فِي ذكْرِ لُؤْلُؤَةٍ مِنْ حَوْلِهَا دارُوا  
في ساحةِ الْعَاصِي تَرْنُو العيونُ إلى   هَيْفَـاءَ شامخَةٍ في رأسِهَا غَارُ
((حُريةٍ)) ولَهَا في السَّاحِ شَارَتُها      تهْفُو النّفُوْسُ لَهَا والْقَلْبُ مَـوّارُ
خُطّـابُهَا قَدّمُـوْا مَهْرًا لَهَا دَمَهُمْ      قَتْلاهمُ تَتْرَى والحَبْـلُ جَـرّارُ
لم يَثْنِهمْ وعْـٌد أعْطَاهُ ذو سَفَـهٍ      مِنْ طبْعهِ الْغَدْرُ والجَـلاّدُ غدَّارُ
أمّا الوعيْـدُ فَلَمْ يخْدِشْ عَزَائِمَهُمْ      فِيْ نَفْسِ أدْنَـاهُمُ عَزْمٌ وإصْرَارُ
قُمْ يا بُنيَّ وعِشْ أيَّـامَ مَفْخَـرَةٍ      فِيْهَا يُهَنّـئُ جَزْلاً جَارَهُ الْجَـارُ
      فيْهَا نَعِيْشُ بِـلا قَـيْـدٍ يُكَـبِّلُنا     هلاّ عرفتَ لِم الأحْرَارُ قدْ ثَاروا؟        
هَذِيْ حَمَاةُ وَإنّي بِنْتُ سَاحَتِهَــا     أنْعمْ بِهَا أمًا، عَزّت بِهَـا الـدارُ


ميلاد الثورة


ميلاد الثورة...
حتى وقت قريب؛ وفي عالم الولادات، يُعتبَر شخص ما قد ولد من لحظة خروجه من رحم أمه على الدنيا.. ويبدأ المهتمون بذلك يُحصون عمره وأحواله من تلك اللحظة، ويدرسون كل ما يمر به من تطور وتغير عضوي، أو نفسي أو عقلي... ويربطون بين تلك التغيرات وما يشاهدونه على المولود من سلوكيات وممارسات.. ثم يُقدمون تقريرهم عنه بما يحتويه من إيجابيات أو سلبيات... ولكن الأمر تغير فيما بعد؛ فتوجهت الدراسات بعد الاكتشافات المذهلة من قبل علماء الأحياء والطب والوراثة والنفس والاجتماع إلى الاهتمام الجاد والدقيق بحياة الطفل منذ لحظة تكونه كعلقة في رحم أمه... وما يتعرض من مؤثرات ومحرضات لسلوكه حتى وهو في داخل ذلك الرحم.. ويراقبون استجاباته لتلك المؤثرات ، ومن ثم يربطون حياته بكل صورها العضوية والنفسية والعقلية بتلك المرحلة... بل ويذهب كثيرون إلى أبعد من ذلك ضاربين في أعماق سلالة الأبوين ، وما يحملان من مورثات، لها أثر على الأبناء ولو بعد أجيال...
وأحسب، والله أعلم، أن الحديث عن الثورة السورية يجب أن يتم بمنهجية مماثلة حتى لا نهضمها حقها... حقًا إن الثورة السورية ولدت بالشكل الذي رأيناه ونراه، في اليوم العاشر من ربيع الآخر، لعام ألف وأربعمائة واثنين وثلاثين للهجرة، والموافق للخامس عشر من آذار لسنة ألفين وإحدى عشرة للميلاد، وأخذنا نقيّم فعالياتها ومُجرياتها منذ ذلك التاريخ... ولكن من العدل والإنصاف أن نرجع إليها وهي في رحم أمها، والرحم هنا هو الوطن والشعب آخذين بعين الاعتبار الأطر الاجتماعية والظروف القاسية والصعبة والمرّة التي تعرض لها ذلك الرحم، وآثار ذلك على الثورة الجنين...
إن الثورة السورية ولدت حقيقة من أول يوم أحس فيه المواطنون باقتناص موقع التحكم بشؤون حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها؛ اقتناصًا لم يكن له مثيل أو نظير... وأخذ هذا الإحساس يلعب دوره الهام، في التحضير للثورة، من خلال الآثار المترتبة عليه...
ظهرت تلك الآثار بصور عديدة.. ظهرت في التململ العام والعارم لدى الناس جميعًا لحظة وقوع ذلك القنص.. وظهرت في الهمسات والتمتمات التي لم يكن لها أن تغادر الشفاه، إلا لدى النذر اليسير، وهي تتساءل.. كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟... ظهرت في تلك الهبّة القوية التي كان لها صداها في كل أنحاء سوريا، اعتراضًا على الدستور ومواده الغريبة العجيبة... وهذه الآثار ظهرت متمثلة بأرتال سجناء الرأي الذين استجابوا لمؤثرات الضغط النفسي داخلهم، والضغط السلطوي، الممارس في داخل رحم الثورة (الشعب والوطن)، التي لم تولد بعد؛ بالمفهوم التقليدي للولادة.. فارتفعت الهمسات، وأصبحت صرخات... ظهرت كذلك باستنكارٍ، ذي كُمُون هائل، لذلك الفرز البغيض لأفراد الشعب الواحد حين تم تأسيس ما أطلق عليه ((الجيش العقائدي)) ومنظمات ((الطلائع)) و((شبيبة الثورة)) وغيرها...كما تجلّت آثار ذلك الإحساس لدى الناس، بذلك التعامل الوحشي غير المسبوق مع الشعب الأعزل، في حماة، وجسر الشغور، وسرمدا، وحلب، وحمص، وغيرها من المدن السورية... وظهرت بالصبر المرير على استغفال الناس، والسخرية منهم، حين يُضحَك عليهم بكلمات ظاهرها الرحمة والصمود والممانعة، أما باطنها فمنْ قِبَله العذاب الذي يتمثل في الكذب والاستسلام والتسويف للمواجهة مع ((العدو))... كل ذلك كان يتم في الرحم ظاهرًا وباطنًا... وظهر أثر ذلك الإحساس أيضًا بالصبر على لأواء الغربة وشدة مرارتها، وقسوة عَيْشها عند من أُخرجوا من بيوتهم ووطنهم قسرًا... وكان كل ذلك يسير جنبًا إلى جنب مع تنامي الطاقة الكامنة المخزونة في نفوس وصدور الناس، والتي تكفلت مُوَرّثاتُهم النفسية والاجتماعية والبيولوجية إلى نقلها، بأمانة، خلال ما يزيد عن أربعين سنة، إلى صدور الأبناء والأحفاد ...
وحين حفلت تلك الصدور بذلك الكمّ الهائل من الطاقة... فاجأت الناس بولادة لم تكن طبيعية... صحيح أن الناس يعرفون أنّ للظلم نهاية حتمية، وأن الأيام دولٌ بين الناس، وأن للصبر حدودًا ثم ينفد... ولكن لم يكن أحد يتوقع أن الصدور التي تغلي بها تلك الطاقة قد ضاقت بها ولم تعد تحتمل مزيدًا من الغليان... وأن النفوس التي كانت تمثل جبالاً من الصبر لم تعد تستطيع أن تكْبُر أكثر مما وصلت إليه لتتسع لصبر أكثر... في هذه اللحظة  شاء الله أن تولد الثورة للعيان، بعد أن كانت مولودة في كل صدر وجَنان... أجل ولدت ، وما من أحد صدق ذلك... ولكن سرعان ما تلاشى وقع تلك المفاجأة، حين رأى الناس أن هذا الوليد ينمو بصورة مثيرة ومدهشة، كما ولد بصورة مثيرة ومدهشة.. ذلك لأن ما لديه من مخزون للزاد والطاقة كفيل له بذلك التنامي السريع...
 وأخذ المراقبون والمحللون والدارسون يُدلون بآرائهم في هذه الولادة وظاهرة التنامي المتسارع، والارتقاء الإيجابي بالوسيلة والهدف... ولكل وجهة نظر.. وفي الغالب كانت وجهات النظر، تلك، لا تجافي الحقيقة، أو ما يقترب منها... ولكن الذي أحسب أنه غير مقبول هو بعض وجهات النظر، التي تتمثل في أن نغمض عيوننا عما جرى في رحم الثورة عبر عقود، ونتجاهل دوره وإيجابيته في وصول الثورة إلى ما وصلت إليه... وهذا الدور يتمثل في نبعين للطاقة الثورية أولهما محاولات الآباء والأجداد التي أشرنا إليها أعلاه، وإن لم تؤت ثمارًا آنية إلا أنها كانت وقودًا مخزّنًا لليوم المرتقب... وثانيهما جهل السلطة المقتنِصَة بطبائع الأشياء، وإصرارها على مزيد من القمع والاستئصال والإقصاء والاستهانة والاستغفال...فلله در هذين النبعين كم كان لهما أثر في تفجير الثورة!!!
انطلاقًا مما سبق بيانه نخاطب شيوخ اليوم وكهوله قائلين لهم: لا تجلدوا أنفسكم كثيرًا حين تجردونها من أي دور لما يقع اليوم على أرض سوريا الحبيبة... نعم؛ أنتم تُشْكرون على عَزْو الفضل لأهله ... هذا الفضل الذي جسده الشباب الطاهر النقي وهو يبذل دماءه رخيصة من أجل إعادة المغصوب إلى أصحابه الشرعيين... وهذا تواضع محمود منكم... ولكن لا تظلموا من أراق دمه منكم ومن جيلكم وهو يهدف إلى الغاية نفسها .. حتى لو أخطأ في الاجتهاد، أو تعثر في الطريق؛ لظروف قد يكون معذورًا بها.. وما أحسب أن الشباب الثائر الآن يرضى عن ذلك التجاهل والتغافل...بل يُزعجه ويؤذيه..
كما نخاطب آخرين ممن لم ينظروا إلى الثورة إلا بدءًا من يوم الثلاثاء الخامس عشر من آذار ونقول لهم: نرجوكم يا أحبتنا وسّعوا أفق نظركم، وليكن له قدرة على العودة إلى الذاكرة التي تحمل في سطورها كثيرًا من الثمين والسمين الذي يجب ألا يُغفل ولا يُنسى...
إن أي ولادة تصحبها آلام وأفراح...واقتضت حكمة الله أن تكون الآلام في عهد الشيوخ والأفراح في عهد الشباب، وهذا منطقي لأن ألم الولادة يسبق الفرح بها...وإن كان لا يخلو كل منهما من الآخر ولو بنسبة ما!!
وعليه فإن الثورة هي جماع ذلك كله... إنها ثورة شيوخ شابوا فيها، وثورة شباب أعادوا إليها نُضْرتها وحيويتها وتوهّجها من بعد ما شابها الذي شابها، وكادت جذوتها أن تنطفئ... شبابٍ عالجوا ما شوهها من جروح وندوب، في المسيرة الأربعينية الطويلة... وهاهم الآن يكسونها أجمل حلّة؛ وهي تتأهب للبر والوفاء بالرحم الذي احتضنها أولاً، ثم دفع بها إلى العالَم لتكون أعجوبة العصر ثانيًا...نعم الوفاء للشعب والوطن، بأن تعيد إليه ما اغتُصب منه وزيادة...فلْيَسِرْ الشيوخُ وراء الشباب يراقبونهم، ويتعلمون منهم، وينصحونهم، ويدعون لهم...ولا ريب في أن الشباب حين يصلون إلى أول مَعْلَمٍ لهدفهم سيلتفتون إلى الشيوخ، ويلتفون حولهم، ويقولون برًا بهم ووفاء لهم: شُكرًا لكم، فقد كان لسيركم وراءنا، ودعائكم لنا أثرٌ فيما وصلنا، جميعًا، إليه....فخذوا أمكنتكم داعين وناصحين وموجهين... ولنأخذ أمكنتا ثائرين وفاعلين وبانين.. فالطريق طويل.. ولكننا سنسيره معًا متعاونين متآزرين ...
الأحد  16/شعبان/ 1432 الموافق لـ 17/تموز/2011  
محمد جميل جانودي.