الثلاثاء، 19 يوليو 2011

ميلاد الثورة


ميلاد الثورة...
حتى وقت قريب؛ وفي عالم الولادات، يُعتبَر شخص ما قد ولد من لحظة خروجه من رحم أمه على الدنيا.. ويبدأ المهتمون بذلك يُحصون عمره وأحواله من تلك اللحظة، ويدرسون كل ما يمر به من تطور وتغير عضوي، أو نفسي أو عقلي... ويربطون بين تلك التغيرات وما يشاهدونه على المولود من سلوكيات وممارسات.. ثم يُقدمون تقريرهم عنه بما يحتويه من إيجابيات أو سلبيات... ولكن الأمر تغير فيما بعد؛ فتوجهت الدراسات بعد الاكتشافات المذهلة من قبل علماء الأحياء والطب والوراثة والنفس والاجتماع إلى الاهتمام الجاد والدقيق بحياة الطفل منذ لحظة تكونه كعلقة في رحم أمه... وما يتعرض من مؤثرات ومحرضات لسلوكه حتى وهو في داخل ذلك الرحم.. ويراقبون استجاباته لتلك المؤثرات ، ومن ثم يربطون حياته بكل صورها العضوية والنفسية والعقلية بتلك المرحلة... بل ويذهب كثيرون إلى أبعد من ذلك ضاربين في أعماق سلالة الأبوين ، وما يحملان من مورثات، لها أثر على الأبناء ولو بعد أجيال...
وأحسب، والله أعلم، أن الحديث عن الثورة السورية يجب أن يتم بمنهجية مماثلة حتى لا نهضمها حقها... حقًا إن الثورة السورية ولدت بالشكل الذي رأيناه ونراه، في اليوم العاشر من ربيع الآخر، لعام ألف وأربعمائة واثنين وثلاثين للهجرة، والموافق للخامس عشر من آذار لسنة ألفين وإحدى عشرة للميلاد، وأخذنا نقيّم فعالياتها ومُجرياتها منذ ذلك التاريخ... ولكن من العدل والإنصاف أن نرجع إليها وهي في رحم أمها، والرحم هنا هو الوطن والشعب آخذين بعين الاعتبار الأطر الاجتماعية والظروف القاسية والصعبة والمرّة التي تعرض لها ذلك الرحم، وآثار ذلك على الثورة الجنين...
إن الثورة السورية ولدت حقيقة من أول يوم أحس فيه المواطنون باقتناص موقع التحكم بشؤون حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها؛ اقتناصًا لم يكن له مثيل أو نظير... وأخذ هذا الإحساس يلعب دوره الهام، في التحضير للثورة، من خلال الآثار المترتبة عليه...
ظهرت تلك الآثار بصور عديدة.. ظهرت في التململ العام والعارم لدى الناس جميعًا لحظة وقوع ذلك القنص.. وظهرت في الهمسات والتمتمات التي لم يكن لها أن تغادر الشفاه، إلا لدى النذر اليسير، وهي تتساءل.. كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟... ظهرت في تلك الهبّة القوية التي كان لها صداها في كل أنحاء سوريا، اعتراضًا على الدستور ومواده الغريبة العجيبة... وهذه الآثار ظهرت متمثلة بأرتال سجناء الرأي الذين استجابوا لمؤثرات الضغط النفسي داخلهم، والضغط السلطوي، الممارس في داخل رحم الثورة (الشعب والوطن)، التي لم تولد بعد؛ بالمفهوم التقليدي للولادة.. فارتفعت الهمسات، وأصبحت صرخات... ظهرت كذلك باستنكارٍ، ذي كُمُون هائل، لذلك الفرز البغيض لأفراد الشعب الواحد حين تم تأسيس ما أطلق عليه ((الجيش العقائدي)) ومنظمات ((الطلائع)) و((شبيبة الثورة)) وغيرها...كما تجلّت آثار ذلك الإحساس لدى الناس، بذلك التعامل الوحشي غير المسبوق مع الشعب الأعزل، في حماة، وجسر الشغور، وسرمدا، وحلب، وحمص، وغيرها من المدن السورية... وظهرت بالصبر المرير على استغفال الناس، والسخرية منهم، حين يُضحَك عليهم بكلمات ظاهرها الرحمة والصمود والممانعة، أما باطنها فمنْ قِبَله العذاب الذي يتمثل في الكذب والاستسلام والتسويف للمواجهة مع ((العدو))... كل ذلك كان يتم في الرحم ظاهرًا وباطنًا... وظهر أثر ذلك الإحساس أيضًا بالصبر على لأواء الغربة وشدة مرارتها، وقسوة عَيْشها عند من أُخرجوا من بيوتهم ووطنهم قسرًا... وكان كل ذلك يسير جنبًا إلى جنب مع تنامي الطاقة الكامنة المخزونة في نفوس وصدور الناس، والتي تكفلت مُوَرّثاتُهم النفسية والاجتماعية والبيولوجية إلى نقلها، بأمانة، خلال ما يزيد عن أربعين سنة، إلى صدور الأبناء والأحفاد ...
وحين حفلت تلك الصدور بذلك الكمّ الهائل من الطاقة... فاجأت الناس بولادة لم تكن طبيعية... صحيح أن الناس يعرفون أنّ للظلم نهاية حتمية، وأن الأيام دولٌ بين الناس، وأن للصبر حدودًا ثم ينفد... ولكن لم يكن أحد يتوقع أن الصدور التي تغلي بها تلك الطاقة قد ضاقت بها ولم تعد تحتمل مزيدًا من الغليان... وأن النفوس التي كانت تمثل جبالاً من الصبر لم تعد تستطيع أن تكْبُر أكثر مما وصلت إليه لتتسع لصبر أكثر... في هذه اللحظة  شاء الله أن تولد الثورة للعيان، بعد أن كانت مولودة في كل صدر وجَنان... أجل ولدت ، وما من أحد صدق ذلك... ولكن سرعان ما تلاشى وقع تلك المفاجأة، حين رأى الناس أن هذا الوليد ينمو بصورة مثيرة ومدهشة، كما ولد بصورة مثيرة ومدهشة.. ذلك لأن ما لديه من مخزون للزاد والطاقة كفيل له بذلك التنامي السريع...
 وأخذ المراقبون والمحللون والدارسون يُدلون بآرائهم في هذه الولادة وظاهرة التنامي المتسارع، والارتقاء الإيجابي بالوسيلة والهدف... ولكل وجهة نظر.. وفي الغالب كانت وجهات النظر، تلك، لا تجافي الحقيقة، أو ما يقترب منها... ولكن الذي أحسب أنه غير مقبول هو بعض وجهات النظر، التي تتمثل في أن نغمض عيوننا عما جرى في رحم الثورة عبر عقود، ونتجاهل دوره وإيجابيته في وصول الثورة إلى ما وصلت إليه... وهذا الدور يتمثل في نبعين للطاقة الثورية أولهما محاولات الآباء والأجداد التي أشرنا إليها أعلاه، وإن لم تؤت ثمارًا آنية إلا أنها كانت وقودًا مخزّنًا لليوم المرتقب... وثانيهما جهل السلطة المقتنِصَة بطبائع الأشياء، وإصرارها على مزيد من القمع والاستئصال والإقصاء والاستهانة والاستغفال...فلله در هذين النبعين كم كان لهما أثر في تفجير الثورة!!!
انطلاقًا مما سبق بيانه نخاطب شيوخ اليوم وكهوله قائلين لهم: لا تجلدوا أنفسكم كثيرًا حين تجردونها من أي دور لما يقع اليوم على أرض سوريا الحبيبة... نعم؛ أنتم تُشْكرون على عَزْو الفضل لأهله ... هذا الفضل الذي جسده الشباب الطاهر النقي وهو يبذل دماءه رخيصة من أجل إعادة المغصوب إلى أصحابه الشرعيين... وهذا تواضع محمود منكم... ولكن لا تظلموا من أراق دمه منكم ومن جيلكم وهو يهدف إلى الغاية نفسها .. حتى لو أخطأ في الاجتهاد، أو تعثر في الطريق؛ لظروف قد يكون معذورًا بها.. وما أحسب أن الشباب الثائر الآن يرضى عن ذلك التجاهل والتغافل...بل يُزعجه ويؤذيه..
كما نخاطب آخرين ممن لم ينظروا إلى الثورة إلا بدءًا من يوم الثلاثاء الخامس عشر من آذار ونقول لهم: نرجوكم يا أحبتنا وسّعوا أفق نظركم، وليكن له قدرة على العودة إلى الذاكرة التي تحمل في سطورها كثيرًا من الثمين والسمين الذي يجب ألا يُغفل ولا يُنسى...
إن أي ولادة تصحبها آلام وأفراح...واقتضت حكمة الله أن تكون الآلام في عهد الشيوخ والأفراح في عهد الشباب، وهذا منطقي لأن ألم الولادة يسبق الفرح بها...وإن كان لا يخلو كل منهما من الآخر ولو بنسبة ما!!
وعليه فإن الثورة هي جماع ذلك كله... إنها ثورة شيوخ شابوا فيها، وثورة شباب أعادوا إليها نُضْرتها وحيويتها وتوهّجها من بعد ما شابها الذي شابها، وكادت جذوتها أن تنطفئ... شبابٍ عالجوا ما شوهها من جروح وندوب، في المسيرة الأربعينية الطويلة... وهاهم الآن يكسونها أجمل حلّة؛ وهي تتأهب للبر والوفاء بالرحم الذي احتضنها أولاً، ثم دفع بها إلى العالَم لتكون أعجوبة العصر ثانيًا...نعم الوفاء للشعب والوطن، بأن تعيد إليه ما اغتُصب منه وزيادة...فلْيَسِرْ الشيوخُ وراء الشباب يراقبونهم، ويتعلمون منهم، وينصحونهم، ويدعون لهم...ولا ريب في أن الشباب حين يصلون إلى أول مَعْلَمٍ لهدفهم سيلتفتون إلى الشيوخ، ويلتفون حولهم، ويقولون برًا بهم ووفاء لهم: شُكرًا لكم، فقد كان لسيركم وراءنا، ودعائكم لنا أثرٌ فيما وصلنا، جميعًا، إليه....فخذوا أمكنتكم داعين وناصحين وموجهين... ولنأخذ أمكنتا ثائرين وفاعلين وبانين.. فالطريق طويل.. ولكننا سنسيره معًا متعاونين متآزرين ...
الأحد  16/شعبان/ 1432 الموافق لـ 17/تموز/2011  
محمد جميل جانودي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق