الخميس، 26 أغسطس 2010

الخاطرة الرابعة

نفحة بدريّة...

كثيرًا ما يقف معظمنا، نحن أبناء ما يُطلَق عليه "العالم الثالث" وقفة تعجب وانبهار؛ لما نسمعه عن رئيس دولة أو رئيس وزراء تلك الدولة، من خارج عالمنا، قد أعلن ــ من خلال قناة دولته التلفزيونية أو أي قناة فضائية أخرى ــ اعتذاره عن أمر أو فعل صدر منه وسبّب مضايقة أو أذى لأحد أفراد تلك الدولة ..
نقف مشدوهين لأننا متعطشون لأن نرى يتكرر مثل تلك المواقف بين ظهرانينا.. لتكوّن ظاهرة تميز مجتمعاتنا، بدلاً من أن تكون كالنقطة البيضاء في الثوب الأسود، نتعطش إليها كظاهرة، حتى ولو كانت على مستوى أدنى في المسؤولية من رئيس دولة أو رئيس وزراء.. وذلك حسب العرف التدريجي للمناصب...
ومما لا شك فيه أن فئامًا من الناس يجهلون ما يترتب على الاعتذار من نتائج حميدة وطيبة ولو أنهم عرفوا ذلك لما قصروا ولبادروا إليه سراعًا..
أما نحن المعجَبون فقد أنسانا وقعُ الفعل في نفوسنا؛ المدرسةَ التي علّمتْ أولئك الأفذاذَ ذلك الخلق النبيل..ولو أن مبادئ تلك المدرسة ظلت حية في ذاكرتنا لما وصلنا إلى درجة التعجب والانبهار من ذاك البعيد ولا إلى درجة التعطش والتلهف إلى هذا القريب...
أجل لقد نسينا، من جملة ما نسينا، أن شخصًا يُدعى سواد بن غزية وهو من أصحاب بدر كان قد وخزه الرسول صلى الله عليه وسلم بعود في يده وهو يسوي الصفوف.. فقال له سواد: آلمتني يا رسول الله .. فما كان من النبي الكريم الرحيم العادل إلا أن كشف على بطنه وقال له: استقد يا سواد.. فانكب سواد على بطن الرسول مقبلاً..وحين سأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب فعله هذا قال له: قد حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر عهدي في الدنيا أن يمس جلدي جلدك..
هنا ليس مجرد اعتذار.. فالاعتذار كليمات يُرضي بها المعتذِر المُعتذَر إليه.. ويطيب خاطره..إنه أكبر بكثير من الاعتذار.. إنه تمكين الآخر من القوَد.. تمكينه من النفس ليأخذ حقه منها، أو من المال ليصيب منه حتى يَرضى، ويُشْفى صدرُه، ويحسّ بحلاوةِ العدْلِ والمُساواة..
وتتكرر الأمثلة بين أولئك الذين تربوا في مدرسة النبوة.. فهذا أبو ذر يعيّر أحد الناس بأمه لأنها سوداء... فيشكو الرجل أبا ذر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم... فيقول له: "إنك امرؤ فيك جاهلية" فخاف أبو ذر كثيرًا وانطلق مسرعًا إلى الرجل يعتذر منه ويعرض عليه ما يريد ليصفح عنه..
ومر أبو سفيان - رضي الله عنه – على صهيب وبلال وسلمان، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها . فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟ . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره . فقال " يا أبا بكر ! لعلك أغضبتهم . لئن كنت أغضبتَهم لقد أغْضَبْتَ ربك " . فأتاهم أبو بكر فقال : يا إخوتاه ! أغْضَبتُكم ؟ قالوا : لا . يغفر الله لك يا أخي...
وتستمر هذه الأخلاق ملازمة لتلامذة مدرسة النبوة، يتوارثها اللاحقون عن السابقين... إلى أن بدأت تتوارى شيئًا فشيئًا، حين أخذت الهوة تكبر تدريجيا، بين الأمة من جهة، وقرآنها وسنة نبيها من جهة أخرى، حتى وصلت الأمة إلى حال تجعل أفرادها يَعجبون من فعل رجل من وراء البحار ما كان أمرًا بدهيًا عند رجالاتها قبل قرون.
وحين يتحقق جزء، ولو كان يسيرًا، مما كان خلُقًا نبويّا في هذا الأمر لدى أي مسؤول ستتحول دهشة الناس من فعل ذاك البعيد إلى إعجاب وحب وتقدير لهذا القريب.. ومن ثمّ تنعقد عروة من عرى التلاحم وتمتين الصلة بين الطرفين.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الاعتذار يحتاج إلى شجاعة لأنه يولّد صراعًا بين مُلْهمَيّ النفس؛ التقوى والفجور..وبقدر ما يكون المرء شجاعًا تتغلب في نفسه التقوى على الفجور ويندفع إلى الاعتذار ممن أخطأ معه غير مبال بوسوسات الجانب الفاجر كالعُجْبِ، والكِبْر، والشعورِ بعِظم الاعتراف بالخطأ، وغيرها....

الجمعة 17/رمضان/ 1431هـ.                                   محمد جميل جانودي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق