السبت، 9 أكتوبر 2010

وقفة عند خبر (3)

الإيمان بالقدر...
الجمعة جاء في موقع قناة الجزيرة يوم 2010/8/10 ما يأتي : "توصلت دراسة ألمانية إلى أن الإيمان بالقدر يساعد الإنسان على التعامل بشكل أفضل مع مسألة وفاة شريك الحياة."
إذا أصيب امرؤ بمصيبة فإنه يحزن ، وهذا الحزن الذي يعتريه أحد نوعين ، فإما أن يكون حزنا عاديا ، يظهر على المحزون بصورة واحدة أو أكثر... فقد يرتسم الحزن على وجهه ويقرؤه من ينظر إليه ، ويعرف أنه حزين.. وقد تأخذ الدموع تنهمر من عينيه... وقد تنطلق بعض العبارات أو الكلمات ، على لسانه ، تومي إلى أنه حزين..  وربما ينعكس هذا النوع من الحزن على طعام صاحبه أو شرابه أو نومه ولكن في حدود معينة لا يتجاوزها... وأما النوع الثاني من الحزن فشيء آخر ، فيه تتغير حالة المرء العادية ، فيصرخ ، نفسه ويلطم ، وينطق بكلمات غريبة ، ويتقلب في أطوار.. ولا يثبت على حال.. ويعيش دائم الاكتئاب.. ينطوي على نفسه ، ويخبئ في أعماقها عدوا من الوساوس والتهيؤات تأتي عليه رويدا رويدا... وقد تدفعه إلى الإسراع بالإجهاز على نفسه بالانتحار!!...
ونزول أحد النوعين من الحزن بالمرء يتوقف على إيمانه بالقدر... والقدر هو _ إن صح التعبير -- برنامج قد وضعه الله سبحانه وتعالى لمخلوقاته ، أيا كانت ، ومن قبل أن يبرأها ، يكون سلوكها في هذه الحياة وفقه..
وقدر الإنسان ، هو كل ما يعمله الإنسان من قبل ولادته إلى آخر لحظة من حياته في الدنيا ، سواء كان هذا العمل بالجوارح ممارسة ، أو أقوالا باللسان ، أو تفكيرا وحديثا في أعماق النفس... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله وكل في الرحم ملكا ، فيقول : يا رب نطفة ، يا رب علقة ، يا رب مضغة ، فإذا أراد أن يخلقها قال : يا رب أذكر ، يا رب أنثى ، يا رب شقي أم سعيد ، فما الرزق ، فما الأجل ، فيكتب كذلك في بطن أمه) [البخاري عن أنس بن مالك] فموضع ولادته ، وكيفية تلك الولادة ، وإرضاعه ، وطريقة ذلك الإرضاع ، وأكله ، وشرابه ، ونومه ، ويقظته ، وتقلباته وهو يقطع شوط الحياة ، ومرضه وشفاؤه ، وما يتعرض إليه من مسرات كغنى وزواج ورزق للأولاد والأحفاد ، واتخاذ أصدقاء ، وتدبير عمل الكسب والعيش ، وتحقيق ما يطمح إليه ويرغبه ويحبه ، كنيل درجات علمية ، أو مناصب اجتماعية ، وغير ذلك مما يسعده ويتوق إليه.. كل ذلك يناله وفق قدر موضوع له سابقا.. والأمر نفسه فيما يتعلق بالأحزان ، كفقر ، وعقم ، وندرة أصحاب ، وأصدقاء ، ومرض ، وموت قريب أو حبيب ، وجوع وعطش ، وعري ، ووقوع أضرار عليه في جسمه أو ماله أو ولده ، أو فشل في مهمة ، وغير ذلك من الأمور المحزنة...
وهذه الأمور (سراؤها وضراؤها) يعيشها المرء ويحياها كما قدرت... وفي كلا الحالين لا يمكن للمرء أن يحيد عن أي جزئية فيه أو يتجاوزها...
فالذي يؤمن بذلك ، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد رسم له طريق حياته من الولادة حتى الوفاة ، وتكون عنده معرفة صحيحة بالله وصفاته وأسمائه.. وأن الله سبحانه وتعالى يريد بالناس اليسر ، ولا يريد بهم العسر ، وأن رحمته وسعت كل شيء ، وأنه رؤوف بعباده ، لطيف بهم ، خبير بما يصلحهم... وأن ما قدره عليهم هو تقدير علم وإحاطة ليس فيه إكراه أو إجبار.. الذي يؤمن بذلك كله فإنه حين تحل به المصيبة ، ولو كانت مرة وقاسية ، يعلم أنها في نهاية الأمر لصالحه.. تماما كما يعلم المريض أن مبضع الجراح وإن كان حين إعماله في جسده سوف ينزف دمه ، ويؤلمه.. ويسبب صرخة تأوه يبعثها من أعماق نفسه.. إلا أن في ذلك خيرا كثيرا يتمثل في استئصال الفاسد من الجسم ، وتخليص البدن من أخطاره.. فتراه (أي المريض) يسلم نفسه للطبيب برضى وطمأنينة...
أما الآخر.. فينظر إلى الواقعة على أنه أمام عدو يريد أن يستنزف دمه ، ويزهق روحه ، ويعذبه.. فتراه ساخطا غاضبا يريد التخلص مما هو فيه.. وبما أنه لا حيلة له أمام من هو أقوى منه فيظن أنه قادر على ذلك بالهروب من واقعه إلى حالة غير مألوفة وغير عادية.. تتمثل في الاكتئاب والتصرفات غير المسؤولة  وربما تنتهي بإزهاق نفسه..
فالمؤمن بالقدر يملك نظرة بعيدة المدى تجتاز واقعه لتنفد إلى المستقبل فيراه جميلا ، وهذا الجمال ثمرة من ثمار تقبل ما أصابه يوما ما من مكروه أو ضرر.. فتراه مبتسما وهادئا وهو يتلقى المصيبة.. أما الآخر فنظرته تقف عند المصيبة ذاتها ، وكأن جدارا فولاذيا يحول بينه وبين الأمل بالخلاص ، واستبدال الحسنة بالسيئة... فيلتفت إلى يمينه فلا يرى إلا المصيبة ، وإلى يساره فلا يرى غيرها وكذلك تحيط به من فوقه ومن بين يديه.. فيصبح متقوقعا داخلها.. يضوى شيئا فشيئا وهي تحصره وتضغط عليه حتى ينتهي إلى مصير أسود والعياذ بالله.
ولقد بين القرآن الكريم أهمية الإيمان بالقدر وكيف أنه يجنب النفس أمرين إن بولغ فيهما انعكس عليها سوءا.. هذان الأمران هما : الحزن الشديد على فات شيء ، وثانيهما الفرح الشديد بما هو آت..
قال تعالى في سورة الحديد :[[مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرٌ ﴿٢٢﴾ لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴿٢٣﴾]]  الحديد : 22 حتي 23
فالأول (أي الحزن) يجعل النفس تصارع في بحر من الندم والتقريع لفوات خير كانت ترغب في نيله.. وفاتها ، وهذا الفوات ؛ إما بخلل في اتخاذ أسباب تحصيله.. أو لسبب مجهول بالنسبة لها.. والمؤمن بالقدر يبقى هادئا متزنا يتلقى هذا الفوات برضا ، جاعلا من كون الفوات بالسبب الأول درسا له حتى يتلافى التقصير والخلل فيما يأتي من مناسبات.. ويرجع الفوات بالسبب المجهول إلى حكمة يريدها الله سبحانه ، وهي في صالحه حسب ما ذكر أعلاه ، وفي كلا الحالين هو راض ومطمئن.
وأما الثاني وهو الفرح الشديد بما أتى النفس من خير ؛ فإنه يوقعها في مرضين خطيرين عليها ، أولهما الغرور والكبر وثانيهما : كفران النعمة ونكران الجميل.. أما الأول فغمرة الفرح الشديد التي تكتنف النفس من جميع جوانبها تقود إلى تورم تلك النفس وانتفاخها فتحس إحساسا كاذبا بأنها كبيرة وكبيرة... ، فيصيبها الغرور والكبر ويمشي صاحبها في الأرض مرحا وخيلاء... هذا ما حصل لقارون.. وأما الثاني فإن غمرة الفرح تلك تحجب النفس عن أن تذكر غيرها... وعندئذ لا تعزو ذلك الخير الذي أتاها إلى مصدره الأصلي.. بل تظن ظنا كاذبا أيضا أن هذا الخير هو من عندها هي ولا فضل لأحد فيه... وهذا ما حصل لقارون أيضا حين قال عن الخير الذي آتاه الله إيه (ٻ      ٻ  ٻ  ٻ     پپ  ... وكلا الأمرين يلقيان النفس وصاحبها في بئر الهلاك.. فيصبح منبوذا اجتماعيا ، بسبب غروره وكبره.. ويخسر أي خير في المستقبل بسبب نكرانه وجحوده...
قال تعالى في سورة القصص[[إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴿٧٦﴾ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿٧٧﴾ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴿٧٨﴾ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿٧٩﴾ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّـهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴿٨٠﴾ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ﴿٨١﴾ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّـهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّـهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴿٨٢﴾]]  القصص : 76 حتي 82
أمر آخر ينبغي التنويه إليه في مسألة (الإيمان بالقدر) أن أناسا يخطئون في توظيف هذا الإيمان في حياتهم ، فتراهم يخوضون في مغامرات خطيرة على النفس أو المال أو الأهل وأحيانا على الأمة.. متجاهلين أي سبب يمكن أن يجنبهم نتائج المغامرات تلك ، وهم يرددون قوله تعالى [[قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿٥١﴾]]  : التوبة : 51
ولو عدنا إلى السياق الذي وردت فيه هذه الآيات لوجدنا : [[إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ۖ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ ﴿٥٠﴾ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿٥١﴾ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّـهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ﴿٥٢﴾]]  التوبة : 50 حتى 52    
نجد أنها جاءت ردا على المنافقين الذين لا يرجعون الحسنة التي تنال المؤمنين ولا المصيبة التي تقع عليهم إلى قدر الله ، وإنما في حالة الحسنة يصيبهم الغم حسدا لما أصاب المؤمنين من خير ، ولو كانوا يؤمنون بالقدر لما اغتموا وعلموا أن تلك الحسنة نعمة من الله الذي يعلم أين يضعها ، وفي حالة السيئة التي تنزل بالمؤمنين من دونهم يفركون أيديهم فرحا لأنهم احتاطوا للأمر ويرجعون الفضل في عدم وقوع السيئة عليهم لأنفسهم...
هنا جاء تعليم القرآن للمؤمنين : قل لهؤلاء يا محمد ، إننا مطمئنون بعد أن نطيع الله بالأخذ بأسباب نيل الحسنة وأسباب دفع السيئة ، أنه لن يصيبنا من حسنة أو سيئة إلا ما كتب الله لنا لنا ، وهذا المعنى تؤيده القصة الكاملة في السورة عن موقف المؤمنين وموقف المنافقين من الجهاد... فالنفير في سبيل الله ، والجهاد بالمال والنفس ، وإعداد العدة أسباب لنيل الحسنة... وبالمقابل ؛ التثبيط ، والقعود ، والاستماع للمثبطين والمرجفين أسباب لوقوع السيئة... وقدر الله يأتي وفق حكمته سبحانه ، سواء كان نيل حسنة أو وقوع مصيبة وسيئة...
ولا يفهم من سياق الآيات أن المؤمنين لم يأخذوا بالأسباب ، واندفعوا إلى خوض المعركة مع أعدائهم وهم يرددون الآية الكريمة التي هي موضع الاستشهاد..
ويحسن الإشارة هنا إلى ما رآه بعضهم من كلمة (لنا) إذ قال : إن كل ما يصيب المؤمنين هو (لهم) وليس (عليهم) وهذا ما توضحه الآية التالية لتي تبين أن المؤمنين ينتظرون واحدة من حسنيين... النصر أو الشهادة والجنة...
وأمر ثالث يحسن التنويه إليه في مسألة الإيمان بالقدر.. وهو أنه إذا أوقع شخص أذى بآخر ترى بعضهم يسارع إلى إخلاء مسؤولية الأول مما تسبب من أذى للثاني بحجة أن ما أصاب الثاني هو قضاء وقدر... وهذا فهم خاطئ أيضا لأنهم بقولهم ذاك كأنهم يرجعون إلى الله ما حل بالرجل إرجاع قهر وإجبار لا إرجاع علم وإخبار.. وأن الأول بريء... ناسين أن القدر هو كتابة الله تعالى لما يفعل المرء وليس إكراهه على ذلك الفعل... كما في حديث "إن الله وكل في الرحم". المتقدم ، وهناك فرق بين خلق الله للفعل وبين جريان هذا الفعل على يد شخص ما باختياره الذي وهبه الله تعالى إياه... فالله سبحانه وتعالى يخلق الفعل ولا يكره أحدا على إنجازه ، وإن كان يعلم أن هذا الفعل سينجز من قبل فلان...
فالإيمان بالقدر ، وتوظيفه بالصورة الصحيحة ، يجعل الإنسان راضيا مطمئنا في حياته ، مهما تعرض فيها لمحن وابتلاءات.. فهي في نهاية المطاف خير له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عجبا لأمر المؤمن . إن أمره كله خير. وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر. فكان خيرا له).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق