الأحد، 9 يونيو 2019

رثاء الشيخين الطنطاوي والزرقا


رثاء الشيخين الجليلين علي الطنطاوي ومصطفى أحمد الزرقا
فرغنا من دفن الشيخ العلامة مصطفى أحمد الزرقا في مقبرة النسيم..وكان المشيعون كثيرين، وهو أهل لتلك الكثرة...وفي طريق العودة من المقبرة إلى البيت ثار في نفسي سؤال... تُرى كيف سيكون شكل الجنازة والدّفن لو أنّ الشيخ توفي في حلب؟ حلب... بلد العالِمِ العظيم... والفقيه الجهبذ.. حلب التي ما من موقع فيها إلا ويشهد للرجل بفضله وعلمه، لِمَ لا؟! وهو فقيه عصره، وقانونيُّ زمانه، وقبل هذا وذاك هو الدّاعية المربي الحكيم... تُرى هل سيُعدّ المشيعون بالمئات؟ هل سيمر الحدَثُ هكذا دون أي تعليق رسميٍّ يُذكر؟ ولا غرابة في ذلك فكثيرون من الأفذاذ من النّاس لم يُشيعْهم إلا النفر القليل!... القليل جدًا... ولكنّ الأمر سيختلف فعْلاً لو كان الموت والدّفن في حلب الشهباء... تُرى ماذا سيكون الموقف حتى ولو لم يكن الدّفن في حلب، ولكن في غير هذه الظروف؟ إنه ليس ثمّة أدنى شكٍّ في بِرِّ المدينة العريقة لأبنائها، وأصحاب الفضل فيها، أجل، ليس ثمّة أدنى شكٍّ في وفائها لهم، وتقديرِها لجهودهم، ولكن...
ما كلُّ ما يتمنّى المرءُ يُدْركُه      تجري الرِّياحُ بِما لا تشْتهي السُّفنُ
نعم، تجري الرياح... رياح الظّلم.. ورياح الباطل... ورياح التجهيل... ورياح القهر... ورياح الإبعاد... ورياح الإخراج ... ورياح الجور ... رياح الطغيان... رياح التّعصب الأعمى... بما لا تشتهيه سُفن العلم والمعرفة... سفن الحقّ والعدل... سفن الفقه والفهم... سفن طالبي النّجاة والكرامة للبشرية، والوصول بها إلى شاطئ الأمن والسلام...
وأنا في طريق عودتي من المقبرة عادت بي الذكرى إلى الوراء لأشهد في ذاكرتي الشيخ الفاضل علي الطنطاوي([1]) مع أخيه الشيخ مصطفى الزرقا في لوحةٍ واحدة... الشيخ علي هو ابن دمشق البار، وقاضيها الذي لا يُثار حول جولاته فيها غبار، وفارسها النجيد، وعالمها العتيد، لذلك كان كثيرًا ما يذكرها بشوقٍ عارم، وحنين وهو بها هائم، أجل... لقد كان يتغنى بأيام دمشق، ومنابر القضاء في دمشق، ولا تكاد صفحة من صفحات مذكّراته[2] تخلو من ذكر دمشق، وكانت العبرات تنهمر من عينيه الكريمتين، عندما يتذكّر دمشق وحرمانَه منها للعديد من السنين([3]).... ثم تصمت دمشق!! أجل تصمت دمشق عند سماعها النعي لحبيبها... تصمت... تُرى هل هذا الصمتُ عقوقٌ ونكران؟ لا...لا...لا.. وألف لا... ولكن...
أجل، لقد حزّ ذلك في نفسي خطوطًا من الأسى، وحفر فيها أخاديد عميقةً من الألم والحسرة... قلتُ في نفسي: أَيُعْقَلُ أنْ تُحْرم أمٌّ من البكاءِ على ابنها وقد فقدته في وقتٍ هي أشدُّ ما تكون محتاجةً إليه؟! أيُعقلُ أن تُحْرَم أمٌّ منْ أن تُشيِّعَ فقيدها بما يليقُ به؟ أيُعقلُ بالمقابل أنْ يُحرَمَ الأبْناءُ منْ ردِّ بعضِ الجميلِ لأبٍ كساهمْ من حُلْي الأدب والفقه والمعرفةِ والخُلُقِ ما يُعجَزُ عنْ وصْفِه وتبيانِه؟ لست أدري... بلى إننا والله ندري .. ولكن لا نقول إلا حسبنا اللهُ ونعم الوكيل، ولا قوّة إلا باللهِ العليِّ العظيم..
أجل، لقد حزَّ ذلك في نفسي كثيرًا، فأصبحتُ وكأني أسمع صوتًا يثور في أعماق نفسي ليكونَ حداءً من حلبَ متناغمًا مع حداءٍ آخرَ من أختها دمشق.. حداءً حزينًا يهتفُ بالأُمَّةِ الْمفجوعةِ قائلاً:
أنــــــــا الثَّــــــــــــكْـلى وصـــاحبَـــــــــــةُ الْبَــــــــــــلاءِ

ولــــمْ يشْـــــــــــــــــهـدْ أَحِبَّتُــــــــنـا عَـــــــــــــــــــــــــزائي
أنــــــــــــــــا الثَّــــــــــــــــــكْلى وفي الشَّهبــــــاءِ نـورٌ

خـبـــــــــــــا ومضى ولم يَدْخــــــــــــــــلْ خِبـائي
لقــــــــــــــدْ أَعْـددْتُـــــــــــــــهُ لِغَـــــــــــــدٍ كـــــــــــــــــــــــــــريمٍ

فكانَ، ولمْ يُخَـيِّـــــــــــــــــبْ لي رجَـــــــــــــــائــــــــي
مضـى العَــــــــــــلَمُ الّذي قــــــــــدْ كانَ يعْلو

عـلى هـــــــــــــامِ الزّمــــــــــــــانِ بِـــــــــــــــلا مِــــــــــراءِ
أطـــــــــــــلَّ عـــــــــليَّ منْ شُرُفـــــــاتِ مَجْــــــــــــــــدٍ

بنـــــــــــــــظــــــــــــــــرةِ والـــــــــــــــهٍ يرْجـــــــــــو شفــائي
يمُـــــــــــــــــــدُّ يدَيْـــــــــــــــــــهِ يرْفَـــــــــــعُــنــــــــــــــــي إليــــــــهِ

مِـــــــــــنَ الوَحْــــــــــــــــــــــــــلِ الّذي فيْـه شَقائي

****

مضـــــــــــــــــى الزَّرْقـــــــــــــــــا ولمْ أَلْثُـمْ جبيـــــــــــــنًا

أغـــــــــــــــــــرَّ لهُ، ولمْ يلبِــــــــــــــــسْ ردائــــــــــــــــــــــي
مضـــــــــــــــــى الزَّرْقـــــــــــــــــــا ولم أسْمــــــــــــــعْ أنينًـا

لشكْـــــــــــــواهُ عـــــــــــــــــــلى مُــــــــــــــــــرِّ الْبـــــــــــلاءِ
غــــــــــــــــدا في الْفِــــــــــقْــــــهِ مَوْئِـــــــــلَ كلِّ راجٍ

فيَـــــــــــطْــرقُ بابَــــــــــــــــــهُ غـــــــــــــــادٍ وجــــــــــــائـي
بحــــــــــــــــــــــارُ الْفِـقْــــــــــــــــــه كان يغوصُ فيها

ويُظْـهِـــــــــــــــــرُ دُرَّهـــــــــــــــــا بعْـــــــــــــــــــــدَ الْخَفــاءِ
ويرتَــــــــــــــــــعُ في ريــــــــــــاض الذّكــــــــــــرٍ دومًا

ويرْقــــــــــــــــــــى بالعقيْـــــــــــــــــــــدةِ للسَّمـــــــــــــــــــاءِ
فكَــــــــــــــمْ منْ مَجْـــــــــــمَعٍ للفِـــــــــقْـهِ أضْحى

بــــــــــــــــــــــهِ رَيَّـــــــــــــــــــانَ مِنْ جـــــــــــــودِ الْعطـاءِ
وكَـــــــــــــــــمْ مِـــــــــــــــنْ حــــــــــــــــــائرٍ يشْكو إلَيْـهِ

غــــــــــــــــــدا بالأمْـــــــــــــن يرْفـــــــــــــــلُ والرّخــــــاءِ
مضــــــــــــى الشّيْـــــــــــــــــخُ الوقُـــــورُ ولا أراه!

ألا طُــــــــــــوبــــــــى لِمُسْتــَــــــــــــمِــــــــــــــــعٍ ورائــي
غريـــــــــــــبُ القهْــــــــــــــرِ والطّغيـــــانِ أَفْـضى

إلى مـــــــــــــــــولاهُ في ثــــــــــــــــــــوْبِ الإبـــــــــــــــــاءِ
بكــــــــــــــى قلْبــــــــــــــــــي عليْـهِ وقبْـلَ عيـــــــنـي

ودمْـــــــــــــــــــعُ العيْـــــــــــــنِ جفَّ من الْبُـــكاءِ
ولَو أنّـــــــــــــي بكيْــــــــــــتُ عَلَيْــــــــه دهْــــــــــــــــرًا

لَمــــــــــــــــا وفّيْـــــــتُــــــــــــهُ حــــــــــــــــقَّ الرّثـــــــــــــــــــــــاءِ
نظَــــــــــــرْتُ إلى الشـــــــــــــآم وإِذْ ضِيـــــــــــاها

تـــــــــــلاشـى بعْــــــــــــــــــدِ حُسْـنٍ أو بَـهَـــــــــــاءِ
وبَسْمَــــــــتُـــــــــها نأتْ عـــــــــــنْ كلِّ عَيْـــــــــــنٍ

ورَوْضتُــــــــــــهـــــــــــــا بِــــــــــــلا طَــــيْـــــــــــرٍ ومـــــــــاءِ
وغُــــــــــــوطتُــــــــــــهـا غـدتْ جـــرداءَ تشْكو

إلى المَـــــــــولى قَــــــــــراصِنَــــــــــــــةَ الشِّــــــــتــــــــــــــــاءِ
وَمَسْـجِـــــــــــــــدُهـا شكا تُجّـــــــــــــــــــــارَ عِلْــــــــمٍ

وعَالِمُــــــــــــــــــهـا عـــــــــــــن الْمِحــــــراب نَــــــاءِ
بمنْــــــفـــــاهُ الكــــمِيُّ غــــــــــــــدا سعيـــــــــــــــــــــــداً

بِنِسْمــــــــــــــــاتٍ تضــــــــــــــــوّعُ من حِــــــــــــــــراءِ
ويُوْصَـــــــــــــــــــــدُ بابُــــــــــــــهـا في وجْـهِ حُــــــــــــرٍّ

وآسِـــــــــــــــــــــــرُها يجـــــــــــــــــــــولُ بـــــــــــلا حَيَــــــاءِ
ويُمــــْــــــنَـــــــــعُ أَهْـــــــــــــلُها منْـــــــــــــها ويأْتي ([4])

إلَيْـــــــــــــــهـا الطَّامِــــــعُــــــــــــــــونَ بلا عَنــــــــــــــــــاءِ
علـــــــيّـًـــــــــــا قدْ بَكَــــــــــتْ وبَكت أخَـــــــــــاهُ

ولمْ تنْـــــــــــــسَ الأَحِبَّــــــــــــــــةَ في التَّنــــــــــــــــــائي
لقدْ أَقْصَــــــــــــــــــــوهُما عنْــــــــــــــــهـا طويـْـــــــــــــــلاً

وقـــــــــــــــــالـوا فيْـــــــــــــــــــهمــــــــــــــــــا زورَ ادّعـــــــاءِ
بكَـــــــــــــتْ أَدَبــًا وفِقْــــــــــهـًا ثمّ عـــــــــــــــــــــــدْلاً

بكـــــــــــــــتْ شيْـــــخـًا تسامى في الْقَضاءِ
بكـــــــــــــتْ مَنْ قــــــــــــــدْ بَـــكاهُ ذوو إبـــــــاءٍ

مُحِـــــــــــــــبٍّ للْفضيْـــــــــــــــــــلةِ والصّـــــــــــفــــــــــــــــاءِ
فصًبْــــــــــــــــــرًا يا دَمَشْـــــــــــــــقُ بُعـيْـــــــدَ صبْـرٍ

وليــــــــــــسَ سِواهُ يحْــــسُـــنُ فــــي الْبـــــــــــــلاءِ
فــــــــــــإِنَّ الصَّـبْـــــــــــرَ خيْــــــــــــرٌ مِنْ جُــــــــــثُـــــــوٍّ

عَـــــــــــــــــــــــلى رُكَــــــــــــــبٍ وذلٍّ وانْحِـــــــــــــــــــنـــَــاءِ





([1]) هو العالم الأديب، الشيخ الجليل علي الطنطاوي، الذي أكرمه الله تعالى فجعل ذكره يملأ الآفاق، وحبّبه إلى أهل الإيمان، وحبّب أهلَ الإيمان إليه، فعرفه الناس بصور عديدة، فمنهم من عرفه صاحبًا وصديقًا وهم كثيرون، ومنهم من عرفه عبر شاشة الرائي (هو الاسم الذي اختاره، رحمه الله، للتلفزيون)، فكانوا يترقبون حديثه الحلو الممتع بفارغ الصبر، ومنهم من عرفه من خلال كتبه التي هي غنيّةً بمادّتها، بهيّة بعناوينها، ماتعة عند قراءتها، دانية القطوف لطالبها، قاصية عمّن ليس لديه تذوّقٌ لآدابها، فكان الذين عرفوه من خلالها يعكفون على قراءتها مرات ومرات، ومنهم من أكرمه الله بالتعرف عليه بزيارته في منزله في مكة المكرمة، ولاسيما حين فتح بابه على مصراعيه، لمن يعرف بالهيئة ومن لا يعرف، وكنت أنا، بحمد الله منهم، ومنهم من أكرمه الله تعالى بالتعرّف عليه بأكثر من طريقة، فكان ذالك نورًا عاى نور....توفّي، رحمه الله، مساء الجمعة لخمس ليال خلون من ربيع الأول من عام ألف وأربعمئة وعشرين للهجرة، تغمّده الله برحمته، وأسكنه فسيح جناته.
([2]) صدرت له ذكريا في ثمانية أجزاء.
([3]) اطلع الأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي، رحمه الله، على هذه الكلمة فقال: حبذا لو تضيف:" وكانت العبرات تنهمر من عينيه الكريمتين، عندما يتذكّر دمشق وحرمانَه منها للعديد من السنين ...."
([4] ) لو أراد المرءُ أن يُحصي من العلماء وأصحابِ الْفِكر والرّأْي الذينَ اضطُروا على العيشِ خارجَ وطنهم الحبيب، والذي هو بأمسّ الحاجة إليهم، لما ساعده الوقت في ذلك، وكثيرون منهم قضَوا خارج الوطن، ومن أعلامهم: الشيخ الدكتور عبد الله ناصح علوان، والأستاذ الشّاعر عمر بهاء الأميري، والشيخ المربي عبد القادر عيسى، والشيخ العلاّمة عبد الفتاح أبو غدة، والأستاذ عبد الحميد الأصيل، والشيخ نزار الصباغ، والسيدة بنان الطنطاوي، والشيخ أبو النصر البيانوني، والدكتور عدنان بدر سعيد، و....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق