الجمعة، 6 مارس 2015

قتلوك يا عبد المعين بخسة

كلمات إلى ابنة أختي...أم الشهيد
ابنة أختي الغالية، أمّ عبد المعين...فقدتِ حبيبك الأولَ، وأنت في ريعان الصبا، على إثر حادث أليم، وهو يعمل في سبيل الكسب الحلال، والعيش الكريم...وترك لك أزهارًا ذات بهجة، ألوانها زاهية، وروائحها زاكية، لكنها كانت براعم لم تتفتح وريقاتها بعد... وكان أكبرها "عبد المعين" وهو لم يبلغ سن الرشد، فحفز نفسه ليكبر، وشحذ همته ليقوى، فيكون أهلًا لتحمل المسؤولية أمام أم رؤوم، وإخوة ما زالوا أفراخًا ذوي زغب... فوقف بجانبك بارًا سخيّا، وساعدًا قويًا، مع أن غصنه ما زال غضَا نديّا، تأمرينه فيطيع، وتوجهينه فيمضي، وتنادينه فيلبي، أقر عينيك بفطنته، وأثلج صدرك بحنكته، فأنساك مُصابَك الجلل في أبيه...وطمأن قلبك عن أخته وأخيه، وكانوا أكثر من واحد وواحدة، فصار في إسعادهم مجاهدًا وكنت إلى جنبه مجاهدة، كان اسمه لا يغادر لسانك، وطيفه لا يغيب عن ذاكرتك، وإشراقة وجهه تنير لك الدرب وأنت ماضية في الطريق، عاملة لإسعاد الجميع، ولتكريم الجميع، وناصبة في ذلك أشد النصب، ومتعبة أبلغ التّعب...
ومضت عليك سنون عجاف، كان عبد المعين سببًا في ألا يُحس بها أحد، جعلها تمر بكم كسحابة صيف، وإن كان وقعها كحد السيف، واشتد ساعده، وقوي صلبه، وانطلق ليخدم الوطن برغبة وأريحية، وهو فرح مبتهج، بفطرته تعلّم أن حب الوطن من الإيمان...وعاد بعد ذلك إلى حضنك وهو عازم على أن يكون أكثر ولاء لك، وأكثر برًا بك.... لكنه عاد أيضًا بشيء آخر ظل في صدره مكنونا، ولو أنه أفصح عنه لقالوا عنه مجنونا!!!
وانطلقت ثورة الشعب المقهور، وانتفض من سُباته كالأسد الهصور، فبرزت عنده وعند أترابه مكنونات الصدور، وعرفوا أنهم كانوا يعيشون في وطن لم يُسمح له أن يُعدّ لهم إلا المدافن والقبور...فسار في الدرب، شعاره الصدق والحب.... يعمل بصمت، في كل حين ووقت، فازداد بريقًا وتألُّقا، وازددتِ له حبًا وبه تعلقًا.
لكنّ خفافيش الظلام كرهت نهاره الوضاء، وسيرته المملوءة بالإخلاص والوفاء، فأغرت به السّفهاء، وألّبت عليه الأعداءَ الألداء، فباغتُوه على حين غرة، وغاب عنك فجأة وغابت بغيابه المسرّة... فغدوتِ أسيرة الحبيبين، ورهينة الحزنين، ولولا أن حباك الله بصبر كالجبال، لغدوت في أسوأ حال... كما أن معرفتك بمراسه الصلب، وأنه لا يلين ولا يستسلم مهما اشتد عليه الكرب، كانت لك بلسمًا يواسي الجراح، وعلى الصدر الملتهب كالماء القراح...
وجاء اليوم الذي نعوه إليك نعيًا تعلو به الهامات، وتطول به القامات، فاحتسبته صابرة ، تفخرين بأنك أم لشهيد، بشهادته رابحة ظافرة، فهنيئًا لك المقام الرفيع، والقصر المنيع، مقام الشهادة، وقصر الكرامة والوفادة....
ابنةَ أختي الغالية، أمّا أنا فكنتُ آملُ ألا يكون خبرُ النعي صحيحًا، وقدْ شاركتِني في هذا الأمل، فعشنا في ترقب وانتظار، إلى أن تأكدت عن استشهاده الأخبار، أجل، قضى في سجنه شهيدا، في موقف كان مشهودا ومحمودا... فنظمت في رثائه قصيدتي، وأبرزت ما جادت به قريحتي، وأنا موقنٌ بأنهُ أكبرُ مما كتبتُ، ودون حقه ما نظمتُ ودبّجْت...
اللهمّ ارحم عبدَ المعين في عليين، وأفرغْ على أمِّه وعلينا المزيد من الصبر، وأعظم لها ولنا الأجر، وحقق للأمة ما تصبو إليه من تمكين ونصر، واجمعنا به وبشهداء الأمة أجمعين، في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك يا رب العالمين.
قتلوكَ يا عبدَ المعينِ بخِسّةٍ.....
عبدَ المُعينِ لقَدْ صبــرتُ طــويلا****عـــلِّي أراكَ فــتًى لنــا مأْمُـــولا
ولعلّ مَــن يومًا نعـــاك مــدلّــسٌ****ألْــقى الكـلام "مُعَـنْعَــنًا" مـبذولا
أجّلتُ فيكَ قصيدَتي يــا مُهجَــتي****ما كنْـــتُ عنْــكَ بغافلٍ وجهــولا
بل كنتُ آملُ أنْ أراكَ كما عهـدْ****تكَ فـــارسًا في النائِـــبـاتِ نبــيلا
أو أنْ أراك ببـــــر أمّـك قــائمــًا****تــرنُو إليــهَـــا بُكْـــرةً وأصيـْـلا
عندَ الصباحِ أراكَ تُســرعُ آخــذًا****بيميـــنِها ومُـقَــبـِّـــلًا تَقْــبــيــــلا
وأراكَ إنْ حــلّ المساءُ جوارَهــا****مُتـــواضعـــًا لِمَقـــامـِـها وذليـلا
أو أن أراك مجاهدًا تغشى الوغى****بسبِـيْــل ربـِّــك لا تريْــدُ بــديلا
زمنًا مكثتُ، بلهفــة، أرنــــو إلى****صــوتٍ نــديٍ يقْــــرأ التَّـنْــزيلا
حتى أتتْ مـــن كل نـــــاحٍ شارةٌ****تـــوحي بأنك قــــد غدوت قتيـلا
صبّرتُ نفسي إذ علمتُ بما جرى****وسمعــتُ ما لا يحْمِلُ التَّــأويْـلا
لكــنّ دمْعِـــي سال يروي وجنَّتي****قد زاد مِنْ حُزْنِي عليك هُـطولا
كيف لا آسى على زيــنِ الشبــــا****بِ، شـــهامةً، ومُبرّءًا مكْحُـــوْلا
كيْـــــفَ لا آسى عليْهِ وصحبُـــه****قـــدْ فضَّــلوه عليهِــمُ تفْضيـــــلا
قـالوا: حَـــيِيٌّ، قلت: تلك فضيلةٌ****كان الحيـــاءُ إلى الكــمــالِ سبيلا
قالوا: يُغامر، قلت: يطمح للـعُـلا****لينــالَ منْ شـمْسِ الضياءِ فتيـــلا
قالوا، وقالوا، قلتُ: قولوا قولًكم****ودَعـوا الشّهيدَ لِرَبـِّـــهِ محْـمُـــولا
قتــلوكَ غَـــدْرًا، إنَّ هذا طبـعُــهُم****ورثـُـوه مِــن أجدادِهم مَوْصـُولا
قتـلوكَ حين رأوك حرًا شامـخًــا****تـــأبى المذلةَ، ترفُــض التدْجِـيْلا
قتلــوكَ في سجْنٍ وأنتَ مكبَّـــــلٌ****تــبًا لهُــــمْ كم قــتَّـلوا مكْبـــُــولا
قتــلوكَ في السّجْنِ الذي شرّفتـَه****مع إخــوةٍ، عاشُوا الحياةَ عُــدولا
ظنـُّــوا بِـقَـتــلك أن يُـــذلُّوا أمـَّـةً****لحَيـــاتِـــها كان الكــتــاب دليــلا
أنّــى لهم أنْ يرتَقُــوا لسفــوحِـها****كانـــوا على مــرّ الزمـــان ذيُولا
حسبوا بأنّ الشام يَسهـلُ مضغُها****ويرَوْنَ فــــيـــها مَركبًا وذَلُــــولا
وإذا بهــا قدْ صيّـــرتْهم عبــــرةً****جعلتْهمُ عصـــفًا غَـــــدا مأكُــولا
والفضلُ يرجــعُ للأسودِ حُماتِهـا****قد كــنْــتَ فيهمْ حامِـــلًا قنديــــلا
تمضي هنا، وهناك تخـدمُ ثـورةً****وتُغيثُ شعــبًا مُبْــتــلًى معْــــلولا
ما كان قتلُكَ يا بْنَ أختي صـدْفةً****فلـــه أعَــدُّوا في الزمــان طويـلا
لم يَرقُبُــوا فيكَ الكرامةَ والوفـــا****لمــا غـــدوتَ مُــربّـيًا ومُعِـيــــلا
فأبوكَ ماتَ وأنْـتَ غــضٌ ناشئٌ****وغدوتَ في فجر الصّــبا مسؤولا
ترعى الصغارَ وأنتَ تحملُ همَّهم****حَتّى غـــدوتَ بعيـشهم مشغُولا
وأعَــنْتَ أمّكَ وهي فـــي أرزائــِها****وحملْتَ عـبئــًا مُنْهِــكًا وثقــيْلا
كـمْ أمّـلَتْ في أن تــرى لك زوجةً****وبنين حَولك، يمتطون خُيُـــولا
ويحوطك الأطفـــال تضحَكُ بينَهم****تُــلقي عليهِـم بُـــردةً وخَمِيْــــلا
لكـــنّ أحفـــادَ الزنادقـــةِ الألـــــى****وأدوا لَديها ما رأتـــْه جميـــــلا
قتــلوكَ يا عـــبدَ المعيــــن بخِسـةٍ****فغـدا الحـــليمُ بقُــبحِها مذْهــولا
أنـتَ الشهيدُ، شهــيـــدُ ثــورةَ أمّةٍ****أعطيتـَـها، كان العَطـاءُ جــزيلا
ونصــرتَها مع صفْـــوةٍ مُختــارةٍ****قــدْ أخْـــلصوا، ما بَــدّلوا تبديلا
عبدَ المعين لأنتَ حـــادي ركبنـا****لمّـــا حَمـلْتَ الصـــارمَ المسلولا
أشْــهَرْتَهُ في وجـــهٍ بَـاغٍ مُعْـــتَـدٍ****ذاقَ الورى من جَـــوْره التنكيـلا
من قال أنّـك سوف تُنـْـسى، واهمٌ****ومُخَـــرّفٌ وأراهُ فيك جَهــــولا
ســـتــظلُّ ذكراك الجَــــميلةُ بيننا****تهفــــو إليكَ قلوبُنــــا تبْجِــيــــلا
ربّـــاهُ قد وافـــاكَ عبــــدُكَ بائعًا****لكَ نفْسَهُ، ما قــطُّ كان بخِــيـْـــلا
يا ربــــّنــا، عبــــدُ المعينِ أتــاكمُ****متضرّجـــًا بدمـــائـِه مغســــولا
فأظلّهُ في ظلّ عرشــــك مُكْــرَمًا****أرهِ لديْــــكَ حَفــــاوةً وقَــبــــولا
*************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق