الأربعاء، 23 نوفمبر 2011

الثورة السورية..... وشهرها التاسع


الثورة... وشهرها التاسع!!!
مرت الثورة السورية حتى الآن في أطوار ثلاثة...
الأول: (يسمي العلماء الطور المقابل له في حياة البشر بعالم الذر) وهو الطور الذي كانت الثورة تتشكل رويدًا رويدًا في ضمير الأمة الذي ناب عنه ضمير الشعب السوري المتمثل في ضمير كل فرد من هذا الشعب العظيم... فقد نشأت أول ما نشأت في الضمير الحي اليقظ الذي رأى حوله انتكاسًا للفطرة البشرية يتضح في " الأسد للأبد" والله سبحانه وتعالى يقول ((وما جعلنا لبشرٍ منْ قبلكَ الخلدَ أفإنْ متَّ فهمُ الخالدون)) ويتضح في "سوريا الأسد" وما قط أضيف وطن بأكمله إلى شخص أيا كان مقام ذلك الشخص، ويتّضح كذلك في وصف الأسد بأنه "سيد الوطن" وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس خاطبوه بـ "سيدنا" قال لهم: ((عليكم بقولكم ولا يستهوينّكم الشيطانُ أنا محمد بن عبد الله , عبد الله ورسوله، واللهِ ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله _ عز وجل)) ويتضح ذلك الانتكاس في ذاك العدد الذي لا يُحصى من صور التقديس غير المسبوق لشخص بذاته.. من كونه "الملهم" و"المعلم" و"الأب القائد" و"القائد الرمز" و"الشخصية التاريخية" و"بطل التحرير" و"بطل تشرين" و"أسد الجولان" و"بطل الممانعة" و"بطل المقاومة" و"بطل الصمود" و"القائد الخالد" و"الأمين العام" و....
نعم رأى الضمير الحي اليقظ ذلك ورأى في الوقت ذاته مستوىً للتعليم يتدنّى، وبطالة تنتشر وتتفشى ، ونسبة كبيرة من الشعب تعيش تحت خط الفقر، ووطنًا يُحتل جزء منه، ويُعتدى عليه، وتُقتطع أرض منه، وأجواء له تُنتهك، وفي أرجائه فشو للرشوة والفساد .. ومتاجرة مبتذلة ورخيصة في قضايا هامة .. ونفاق جلي حين يُغطى ذلك كله بمساعدة جمة لفئة تكون في صالح الحاكم ويُقدمها على أنها للصالح العام... وقبل ذلك ظلم فاجر، وإذلال ظاهر، وضغط نفسي قاهر... رأى الضمير السوري ذلك كله فأخذت الثورة مكانًا لها في النفوس العطشى للخلاص والحرية...
الثاني: ( عالم الرّحم): وهو الطور الذي استقرت الثورة فيه في رحم الوطن... وبذلك انتقلت من كونها فكرة عملاقة في الضمير إلى كائن ينبض بالحياة، ويتحرك لهدف، معلنًا عن وجود مادي له .. وجود ظهرت أولى خلاياه يوم الخامس عشر من آذار من عام أحد عشر وألفين للميلاد... وأخذ الانقسام الخلوي يتسارع بطريقة مذهلة حتى شمل وجود هذا الكائن الرحم كله (أي الوطن كله) وإن كان يتكاثف في موضع أكثر منه في الآخر... وتجسد في آلاف من الكتل البشرية الحية وبضمائر حية، وبنفوس حية وبقلوب حية وبوعي حي ... تتحرك بدافع إنساني محض بعيدًا عن أي رمزية لسلوك غير إنساني... الأمر الذي جعل تحركها ذاك سلميًا؛ بل إن أكثر ما يُميزه هو كونه سلميًا... وأخذ لسان هذه الجموع تهتف للإصلاح والخلاص من الفساد.. لم يُخرجها الجوع بالرغم من أن كثيرًا منها جائع... ولم يُخرجها الحرمان المادي مع أن جلها يعاني من العوز والحرمان... خرجت لتصلح الفاسد، وتقوم المعوج، وتنصر المظلوم، وتأخذ على يد الظالم...وتكون مع الضعيف حتى تأخذ له الحق، وتصل الرحم،.. وأخذ هذا الجنين العجيب ينمو وتنمو معه حاجاته ومطالبه... ذلك لأن كل يوم يمر يزداد تعلقًا برحمه، تعلقًا عاطفيًا وشعوريًا ونفسيًا، وأخذت تتطور هذه العلاقة حتى وصلت إلى أسمى تعبير لها وهو التعلق المصيري.. حيث صار الوطن هو الثورة والثورة هي الوطن... وحين يأتي موعد ميلاد الثورة فهو نفسه موعد ميلاد الوطن!!! كيف لا يكون ذلك؟! وقد تغير لون تربة هذا الوطن من كثرة ما رُويت بدماء رجال الثورة ونسائها وشيوخها وأطفالها.. فكأن الوطن والثورة عضوان من كائن جسد واحد..هي تمده تربته بالدم الذي هو أشهى غذاء، وأعذب شراب..وما من وطن بلغ عزته وكرامته من غيرهما.. وهو يمدها بالثوار الأحرار..  وكلاهما يسيران ليصيرا سوريا الحرة الأبية... وإن هذا الانصهار التام بين الثورة والوطن غير رجعي... فلا رجوع إلى ثورة في الضمير ولا إلى وطن بلا ضمير يحرسه ويصونه ويحميه ويصلح كل خلل فيه... فالعملية كما يقول علماء الفيزياء الحرارية غير عكوسة... وإنما تسير باتجاه واحد...
الثالث: (عالم الشهود): والثورة السورية الآن وهي في شهرها التاسع تذكرنا بالأم الحامل حين تكون في شهرها التاسع أيضًا، ووجه الشبه فيهما أن المولود المنتظر في الحالين ((إنسان)) ... ففي حال المرأة؛ المولود المنتظر إنسان، يملك بالفطرة أعز ما يمكن أن يملكه مخلوق تميز بالعقل والإدراك والنفخة من روح الله.. يملك الحرية.. وأصدق تعبير لذلك قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب،رضي الله عنه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا). وفي حال الثورة فإنها حين تولد إلى عالم الشهود تتمثل ولادتها بولادة الإنسان السوري الحر الكريم العزيز... الإنسان الذي استطاعت الثورة في المرحلة الرحمية أن تطلق نفسه من عقال الخوف، وأن تحرر عقله من نير التبعية والعبودية والإحساس بأن زيدًا من الناس فريد بين البشر، فريد بذكائه، وفريد بقدرته الفائقة، وفريد بجبلّته، وفريد بشجاعته، وفريد بإخلاصه، وفريد بقيمه... هذا الاعتقاد بالتفرد أوصل إلى القول بالعبارة ((إما فلان... أو الكارثة والطوفان!!))
نعم سيولد الإنسان الحر... الحر بإرادته، والحر بحركته، والحر باختياره، والحر بكل شيء تكون فيها حريته إيجابيةً معطاءً... حرية تبني ولا تهدم، توحد ولا تفرق، تعطي ولا تمنع، ترفع ولا تضع، تؤمن بكل جميل وسامٍ، وتكفر بكل قبيح ودنيء...
ووجه الشبه أيضًا في الحالين أنه حين يقترب موعد الولادة تشتد آلام المخاض... وتشتد المعاناة... ويشتد نزيف الدم... ولكن مع كل ذلك لا يُغادر الأملُ نفوس من ينتظر المولود... هذا الأمل هو الذي يزيد من صبر الوالدة ومن تَحَمُّلها... وهذا الأمل هو الذي يُضفي على وجهها إشراقة الرضا والتلهف لرؤية المولود كاملَ الأوصاف، وهو جاهز لأن يتهيأ لعالم البناء والعطاء..... هذا مشهود ومألوف لدى الأم العادية... ومألوف أيضًا لدى الثوار الأبطال الذين انتقلت على أيديهم الثورة من عالم الرحم إلى عالم الشهود... وستنتقل من عالم الشهود إلى عالم العطاء والبناء والتحرير الشامل والعام... ولكن متى يكون ذلك؟
إذا كان الجواب عن هذا السؤال سهلاً في حال ولادة الإنسان الفرد... وذلك بعد مضي تسعة أشهر على الحمل... فربما يكون الجواب ليس بهذه السهولة في حال ولادة الثورة، وانتقالها إلى عالم العطاء والبناء... ولكن هذا لا يحجر علينا أن نتفاءل بأن تتشابه الثورة مع الإنسان حتى بهذه الجزئية... والأمل بالله كبير...وإذا كانت كل خلية في جسد الأم تتحفز لتوجه طاقتها في خدمة الولادة... فجدير بكل شبر من الوطن العزيز أن يتحفز ويسخر طاقته للتعجيل في ولادة الثورة... فهل أدرك ذلك بعض الجهات النائمة أو الخاملة في جسد الوطن الكبير؟ نأمل ذلك... نقول هذا بعد أن نذكرها بأن العملية الثورية في سوريا ليست عكوسة، بمعنى أنها غير قابلة للتراجع...ولتحزم تلك الجهات أمرها، فالأمر جد وليس بالهزل... ومما يُطمئن أن بوادر تحركها ليلوح بالأفق.. فعليها أن تحث الخطا لأن بوادر ولادة الثورة هو الآخر قد أشرق نوره من وراء الأفق.. فلتسرع تلك الجهات قبل أن تسبقها الولادة، وتعاقب نفسها بالندم والحسرة..((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون...))
الأربعاء، 27/ذو الحجة/ 1432 الموافق لـ 23 تشرين الثاني، 2011
محمد جميل جانودي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق