الخميس، 2 أكتوبر 2014

شهيد ليلة التروية


شهيد ليلة التروية: أبو أحمد الشامي

دخلتُ المنزل راجعًا من صلاة العشاء الآخرة، ليلة الخميس الثامن من ذي الحجة، فرأيت جميع من فيه واجمين سا كنين، كأن على رؤوسهم الطير، فقلت في نفسي: اللهم اجعل في ذلك الخير، وسلمت كالعادة، فردوا السلام بهدوء من غير زيادة، فتريثت في السؤال عن الخبر، وأخذت أجيل في الحاضرين البصر، فوقعت عيناي على دموع منهمرة، تَجهدُ صاحبتُها إلى أن تجعلَها مخفية مستترة، فباءت محاولتها بالفشل، إذ الدموع كانت غزيرة كماء السماء إذا نزل، عندئذ سألت بحيرة ما الأمر؟ وفيم هذا البكاء والقهر؟ فنظرت إليَّ صاحبةُ الدموع، بنظرة ذات حزن وخشوع، ثم حولت نظرتها إلى إحدى بناتها، وكأنها توحي إليها بالكشف عن سر آهاتها، فقالت البنت بصوت متهدج حزين، لكنه برفق ولين: يا أبت، استشهد ابن خالي أبي أحمد، وأسكتها الحزن عن الإسهاب والتدليل، فسألت: كيف وأين؟ فردتْ عليّ عمّته: في جبل الأكراد بالقرب من دورين، أصابت قلبَه رصاصةٌ في معركة التحام، مع الموتورين الحاقدين اللئام.....

وقفت مذهولا قليلا، ولم أنبس ببنت شفة طويلا، وخرجت قاصدا غرفتي فاعتكفت فيها وحيدا، حابسا دمعي عن عينَيِّ غيري كيلا أجلب له من الحزن مزيدا.
جمعت صدغيّ بين يديّ، وأخذتُ في سري أخاطب والديه وقلت، لله دركما، أخوه الأكبر مغيّبٌ في سجون الطغاة، لا خبر عنه ولا أثر، فصبرتما على فراقه، وما فقدتما الأمل في فك أسره وانعتاقه، لم يكن ذاك لعلامة ظهرت من المجرمين آسريه، فهم أبعد ما يكونون عن أي عمل مُجْدٍ أو نزيه، وإنما لثقتكما القوية بالله، واطمئنانكما إلى عدالة ما قدره وقضاه، وهاهو أخوه؛ حبيبه ورفيقه، وأنيس طفولته وصديقه، ينضم إلى قافلة الشهداء، ومواكب الأحرار الأصفياء، اختاره الله ليكون شهيد ليلة الترويةْ، فكان استشهاده خير استجابة لله وتلبيةْ، وكأن لسان حاله يقول: يا رب، إذا كان الحجيج قد سمعوا أذان خليلك إبراهيم في الحج فأتوك وهم يهتفون لبيك اللهم لبيك، محرمين بثياب بيضاء، يطوفون بكعبتك الغراء، شَدّهم الشوقُ لخير البقاع، قادمين من مختلفِ الأصقاع، طامعين في ثوابك، مستأنسين بالوقوف على بابك، وهم يتجهزون ليوم التروية، ليزيدوا نفوسهم تصفية وتحلية، ويرووا ظمأ الأجساد والأرواح، من ماء زمزم اللذيذ القراح، يا رب إذا كان هذا حال حجاج بيتك الحرام، وبيني وبينهم آلاف الأميال والأقدام، فإني قصدت من أول خروجي في سبيلك، إلى أن أحج إلى مرضاتك، حين سمعت مناديًا ينادي "حي على الجهاد" فأنال العز في الدنيا والسعادة في يوم المعاد، فأحرمت بثياب النفير، وأسرعت للقائك أحثُّ الخطا في المسير، وفي ليلة التروية حققتَ لي الغاية، فاخترتني شهيدا وأنا رافعٌ للحق راية، فرويتُ وارتويت، وأخذتُ وأعطيت، رويتُ أرض الشام المباركةَ بدمي، متأسياً بما فعله أحرار بني قومي، وارتويت من فيوضات رحمتك ما أستغني به عما سواك، ومن سحائب جودك ما أنعم به في ظلال رضاك، وأخذت بالشهادة وساما، وأعطيت بها لأحبتي أمنا وسلاما، فيارب أسألك أن تلحقني بشهداء الشام الأبرار، المصطفين الأخيار، وأسألك أن تجعل دمي الذي سال على ثراها نورا يهدي المخلصين، ونارا يحرق غاصبيها المجرمين، اللهم اجعل دمي مدادا يسطر به المنتظرون من بعدي ملاحم البطولات، وهم ماضون ليحققوا ما ضحت به من أجله الأمهات السوريات، من أبناء وبنات، ومهج وأكباد وفلذات.
خاطبتُ والديّ الشهيد ومَنْ يلوذ به بما تقدم في سري، متأدبا بأدب المقام، مقدّما لهما أسمى آيات التقدير والعزاء والاحترام، وهأنذا أستأذنهما وأستأذن آباء وأمهات الشهداء على أرض الشام، لأصرخ في آذان فئام من الناس نيام، أن هبوا من رقادكم، وكفوا عن نزاعكم وعنادكم، قوموا فتحسسوا طريق الشهداء فاسلكوه، ونهج جهادهم الحق فاتبعوه، ولا تدعوا دماءهم تضيع هدرا، وإياكم أن تلتمسوا لتقاعسكم وتوانيكم عذرا، فالخطر على الشام وأهلها قد تفاقم وادلهمّ، وها هي المؤامرات، ترونها، تحاك من غريب حينًا، وأحيانا من ابن عم، فكونوا لها في صحوة، وحذار أن تلفتكم عنها غفوة أو كبوة، واعلموا أنه ليس أمامكم من خيار سوى الثبات والاستمرار، وإلا تغشّاكم إلى يوم القيامة الذل والعار.
رحمك الله يا أبا أحمد، يا شهيد يوم التروية، وشفَّعك في أهلك وذويك ومحبيك، وجعل استشهادك لبنةً في بناء دولة العدل والحرية والكرامة، وأحلك في الجنة دار المقامةْ، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق