الجمعة، 22 نوفمبر 2013

كهف الثوار وصخرة الأمم المتربصة

 
كهف الثوار وصخرة الأمم المتربصة
بقي مطر السوء يهطل على الشعب السوري ما يزيد على خمسين عامًا، وهو يحمل حجارة من الظلم والقهر والاستعباد، ويحمل حمما من الذل والإفقار والهوان، ويحمل شواظا من التفرقة وتغيير الهوية والتضليل، ويحمل فيما يحمل أحماضًا مركزة تعمل على تذويب عقيدة هذا الشعب وجعله ينصهر في بوتقة الفساد والتفسخ والانحلال...
هذا المطر كان ينهمر بغزارة بصوره المختلفة، وكان الشعب يفتش، بحذر، عن مظلة تقيه وبال ذلك كله، لكن عصا القمع والبطش كانت تحول بينه وبين ما يفتش عنه، لم يجده؛ لا في الداخل، ولا حتى في رحاب أمم الأرض، وإن عثر على واحدة، فلا تجدي، لكثرة ما فيها من ثقوب وخروق...
بقي حال الشعب هكذا، إلى أن حان وقت الإنقاذ، فهيأ الله تعالى له كهفًا يأوي إليه، ويستظل به، ويحتمي بجدرانه الحصينة مما يهرب منه.... فكان هذا الكهف هو الثورة العظيمة التي انطلقت فجأة من كل ناحية من نواحي سوريا، وأخذ الناس يتوافدون إلى هذا الكهف زرافات ووحدانا، فأحسوا بحنانها الدافئ، وملاذها الآمن، وفوق هذا وذاك وجدوا أن هذا الكهف يتحول إلى مدرسة في التربية والأخلاق، في الشجاعة والفروسية، في الجود والكرم، في الإيثار والفداء، فاستطاعت الثورة هذه، في كهفها هذا، أن تغير ما شوهه مطر السوء ذاك، وتُحول، في نفوس اللاجئين إليها، الخوف إلى إقدام، والبخل إلى كرم، والأنانية إلى غيرية وإيثار، والدجل والزندقة والضلال إلى إيمان وصدق وحق مبين....حدث ذلك كله في زمن قصير، وأيام معدودة...
كانت الأمم ترقب ذلك وترصده، فلما تكشف وجه الثورة، وعلمت أن هذا الكهف الذي ما كان يُنتظر منه أن يكون سوى أداة لاتقاء بعض ما يحمله مطر السوء ذاك...وإذ به يتحول إلى حصن حصين ليس للأجساد فقط، وإنما للنفوس من أن تغرق في وحول الشهوات، وللقلوب من أن تقسو من كثرة المعاصي والآثام، وللجوارح من أن تخبط خبط عشواء... وأنه مؤهل لأن يجعل من هذه الثورة ثورة بحق بكل ما تحمله هذه الكلمة من إيجابيات، ثورة تتوجه إلى التطهير والتصفية، والتنقية، ليس فقط في حدود سوريا، وإنما يتعدى ذلك إلى ما جاورها، بل وإلى العالم بأسره، ولاسيما بعد أن اقترنت بعقيدة هذه الشعب التي كانت هي الأعلى في كل معركة يخوضها تحت رايتها على مدى التاريخ...
لم يعجب الأمم، بوجه عام، ذلك، فأرادت أن تحول بين هذا الشعب اللائذ بكهف الثورة، وبين الوصول إلى ما يصبو إليه، فتألب أكابر دهاقنتها ومجرميها في إعداد صخرة كبيرة وعتيدة، يسدون بها على الثوار باب ذلك الكهف، ويحولونه إلى سجن كبير، تُحاصَر من خلاله الثورة ومن هم في كنفها حصارا خانقا، يضطرون من داخله على إحداث ثغرات في جدران ذلك الكهف الآمن ليفقد بذلك خاصيته من الوقاية والحماية والحفظ... فعمد أولئك الدهاقنة إلى جبْلِ ملاط هذه الصخرة بخليط عجيب من التضييق في المطعم والمشرب والملبس والدواء، إلى حرمان من التسليح أيا كان، إلى هجين من مدعي الثورة ومنتحليها، إلى تشويش في الأفكار وبعثرة للأهداف، إلى إيغار للنفوس والصدور فيما بين أصحاب الكهف أنفسهم.... وأحكمت هذه الصخرة الحصار والخناق عليهم، في الوقت الذي أطلقوا فيه العنان للذئب الغادر أن يفعل ما يفعل في البلاد والعباد، سواء في القلمون، أو في حلب الشهباء، أو في الرقة وإقليم الجزيرة، وغيرها..
لم يبق أمام المحاصرين والمضيق عليهم (الثوار والشعب الحاضن لهم) إلا أن يفعلوا ما فعله أولئك الثلاثة الذين أطبقت عليهم صخرة تدحرجت من أعلى الجبل فسدت عليهم الغار الذي لجؤوا إليه للاحتماء من العواصف والمطر، فتوسل كل منهم بعمل صالح فعله راجيا تفريج الصخرة عنهم، وتم لهم ذلك....
نعم على الثوار والشعب عامة؛ كبارا وصغارا، رجالًا ونساء، أن يتذكر كل واحد منهم ما قدم من عمل صالح يبتغي به وجه الله تعالى، ويسأل الله أن يفرج عنهم صخرة الأمم تلك بذلك العمل، مع ما يملكون من أسباب مادية لذلك.... والذي لم يتذكر أنه قدم عملًا صالحا، فليبادر إلى تقديمه عاجلاً غير آجل، وكما أن أعمال الثلاثة غطت ضروريات المجتمع بفروعها الثلاثة، الاقتصادي (صاحب قطيع الغنم) والاجتماعي الأخلاقي (الرجل الذي راود المرأة عن نفسها) والإحساني القِيَمي (بر الوالدين)؛ فعلى المحاصرين من الثوار ومن هم في عدادهم، أن يراعوا ذلك كله، فيسدوا جميع الثغرات التي تنفذ منها الأمم المتربصة، محاولة إحكام إغلاق  تلك الصخرة عليهم....ونحسب، والله أعلم، أن الثلاثة إضافة إلى كون كل واحد منهم سأل الله تعالى بما أخلص من عمل، فإنهم لم يُهملوا الأسباب المادية، وهم يتوجهون إلى الله بقلوب  مخبتة في التوسل والدعاء، فتكاتفت أيديهم واستجمعوا طاقاتهم، ماديا، لإزاحة تلك الصخرة.. والذي يهمل الأخذ بالأسباب لا يفهم حقيقة التوجه والتوكل على الله، وبالمثل؛ فعلى من يهمه،  من الثوار، إزاحة صخرة الأمم التي سدت الكهف عليهم؛ وأعاقت الثورة من التقدم.. عليهم أن يفعلوا كما فعل الثلاثة، فلا يهملون أي سبب مادي متاح لهم، وهم يتوسلون إلى الله بأعمالهم الصالحة، وليكن أملهم بالله كبيرا، وسيرون أن الصخرة قد أزيحت، وأن حصارهم قد انتهى، وأن كهفهم (ثورتهم) قد عاد واحة وارفة الظلال، وعرينًا لأسود إذا زأرت ارتجف المتربصون بها، ومدرسة جامعة لكل فضيلة، وأن هدفهم قد أصبح منهم قاب قوسين أو أدنى.
محمد جميل جانودي
الجمعة 19 المحرم 1435 الموافق 22 تشرين الثاني 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق