الأربعاء، 5 يونيو 2013

القصير....دروس وعبر (1)


القصير... دروس وعبر (1)

"لا تحسبوه شرا لكم"

صمد أبطال القصير، على قلة عددهم، وندرة عتادهم، وضعف قوتهم، مدة طويلة نسبيًا، في وجه غزاتهم، الأفضل عدة وسلاحًا، والأكثر عددًا، وثالثة ليست عند أبطال القصير، ما يُقارن بها، ألا وهي كمية الحقد الدفين الذي يحمله أولئك المعتدون، ويكرسونه، ويختزنونه إلى يومهم هذا، هذا الحقد الذي لا يمكن بأي حال أن يوجد، ولو بالنزر اليسير منه، عند أي مقاتل شريف، ذلك لأنه (الحقد الدفين) هو الذي يُعمي ويُصم، فتندفع الحيوانية والبهيمية في شتى صورها لتفعل ما يُثير التقزز والاشمئزاز لدى من عنده أدنى نصيب من الفطرة الإنسانية، ذلك أنهم، به، يقتلون الشيخ والطفل قبل الشاب والجلد، والمهادن قبل المقاتل، والمرأة قبل الرجل، ويمضون في غيهم ليهدموا ويحرقوا ويُهلكوا الحرث والنّسل...

وأمام هذا النوع من الوحشية القذرة؛ ماذا تملك أم الولد الحقيقية أن تفعل؟ وماذا يملك الذين ملأ الله قلوبهم بالرحمة والإنسانية، وحلاهم بقيم الشهامة والرجولة، ماذا يفعل هؤلاء سوى أن يلجؤوا إلى خيارهم الوحيد، فالأم تتنازل عن رضيعها مؤقتًا ليسلم من القتل والشقّ نصفين، والبررة يتنازلون، مؤقتًا، عن الطين والحجارة، وبقعة من الأرض، ظنَا منهم أنه ربما لهذا الصنيع أثر في درء القتل والفساد، عن أطفال رُضّع، وشيوخ رُكّع، وأنعام رُتع، وغرسات تُزرع... وهذا الذي صنعه أبطال القصير بعد صمودهم البطولي الأسطوري طيلة تلك المدة... فأحيوا بذلك ذكرى ثلاثة آلاف من أبطال الصحابة، حين واجهوا ما يقارب مئة وخمسين ألفًا من الروم، وإن كان الأمر مختلفًا، على الأقل في وجه واحد، فالروم يُظلمون إذا قلنا إنهم يحملون ما يحمل غزاة القصير من الحقد الذي تمت الإشارة إليه...

أجل لقد كانت القصير مؤتة العصر... وكان أبطالها تلامذة نجباء لزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة وجعفر بن أبي طالب وخالد بن الوليد، رضي الله عنهم، وتجلت هذه التلمذة بأبهى صورها فيما فعله أولئك الأبطال بالانسحاب المقرون بنية تقليل الخسائر في صفوف الأهل والجيش الحر، وهو ما فعله خالد، رضي الله عنه، حين أنقذ الجيش بانسحابه الرائع من المعركة، الأمر الذي حدا بمحدودي النظرة من أطفال ونساء أهل المدينة أن يستقبلوا الجيش المنسحب بالحصى وهتاف: "يا فرار"، فصحح الرسول الأعظم، صلى الله عليه وسلم، معلم الناس الخير في كل شيء، وقال لهم: بل هم الكرار.... فأبشروا يا أبطال القصير الذين دفعتهم نخوتهم وحميتهم وإنسانيتهم وخلُقهم النبيل إلى أن يجتهدوا في الانسحاب اجتهادًا منهم في حماية؛ ما إنَّ حمايته هي الأَولى والمقدمة على أي شيء آخر، في جميع الأعراف، حتى ولو على نصر يقوم على الأشلاء والفظائع...

لذلك لا تحسبوا، أيها الأبطال، أن ما فعلتموه هو شر لكم بل هو خير، بل وخير كثير، فهل يُدرك ذلك محدودو النظر،  ويكفون عن إطلاق ما تزين لهم محدودية نظرهم من عبارات، كلها تنضوي تحت شعار "يا فرار" ليوسعوا أفق نظرهم ويهتفوا بأولئك الأبطال "يا كرار".

"بل هو خير لكم" خير في حرصكم على أرواح الناس ونفائسها، وخير لكم في إعادة ترتيب صفوفكم وشحذ هممكم، وخير لكم في كشف المزيد من بهيمية وقذارة الغزاة لأنهم، بحكم ما لديهم من حقد دفين، لن يكفوا عن التنكيل والقتل والإفساد لكل شيء...

"ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم" أما الذين تقاعسوا عن نصرتكم، أيها الأبطال، وأطلقوا وعودهم في ذلك، ولم ينفذوها، وربما بعضهم كان يضحك من طرف خفي؛ وهو يرى ظاهر النتيجة، فلهؤلاء نصيب من تبعات الإثم الذي اقترفوه حيالكم، وسينالون جزاءهم قريبًا... أنى كانت هويتهم، وأنى كان موقعهم، وأنى كانت الصفة التي وصفوا بها أنفسهم بالنسبة لكم....!!

"والذي تولّى كبره منهم له عذاب عظيم" أما الكبار الذين كانوا يخططون بمكر ودهاء وخبث ليوقعوكم فيما، هم الآخرون، يحسبونه شرًا لكم، والقاضية عليكم، ويمنعون غيرهم من مد يد العون والنصرة لكم... أما هؤلاء فلهم عذاب عظيم... وهو آتيهم لا محالة... إنه وعد غير مكذوب...

ذاك هو الدرس الأول: لا تحسبوه شرًا، بل هو خير، والمخططون لإحباطكم وهزيمتكم سينالون جزاءهم الذي يستحقونه، وهو أولًا وأخيراً تكريس وتعميق لفضح الغزاة، وكشف نفاقهم، وكذبهم، وافترائهم في كل ما يدعونه ويعلنونه من معسول الكلام.   [يتبع]

محمد جميل جانودي.

الخميس 27 رجب 1434 الموافق 30 أيار 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق