الثلاثاء، 17 أبريل 2012

في ذكرى يوم الجلاء


في ذكرى الجلاء...
الأربعاء 16 جمادى الأولى لسنة 1365 والموافق لـ 17 نيسان لسنة 1946
حين كنا صغارًا ويمر يوم ذكرى جلاء الاستعمار الفرنسي عن سوريا... كنا نحتفل بأدواتنا اليسيرة المتاحة، وقلوبنا تخفق فرحًا بهذا اليوم الشهير... وأذكر أنه في ذلك اليوم كان يُكرّم الأبطال الذين ما زالوا أحياءً وتشرفوا بالدفاع عن أرض الوطن، وبدحر المحتل عن ربوعه...
في ذلك اليوم كانت البسمة تعبر عنها شفاهُنا بأوضح صورة تُعبر عن حقيقتها وصدقها، كانت ترتسم على وجوهنا فتزيدها بهاءً على بهاء، ونضرة إلى نضرة... كنا نبدأ احتفالنا بإنشاد ((حماة الديار)) وقلوبنا تهفو إلى أولئكم الأبطال الذين آلوا على أنفسهم أن يُمضوا ليلهم سهرًا ويقظة بعيون مفتوحة، حماية للوطن، ودفاعًا عنه من أن تمتد إليه يد آثمة، أو تنظر إليه عين غادرة... نهفو إلى الأبطال من إخواننا وأبناء عمومتنا وأصدقائنا من شباب سوريا الذين هم في مرابضهم هناك على حدود فلسطين ... في جميع القطاعات، الشمالي والأوسط والجنوبي... هناك عند جسر بنات يعقوب وتل (أبو الندى) .. وفيق...كانت قلوبنا تهفو إليهم محيية إياهم بتحيات من نور، يحملها النسيم العطر بأزهار نيسان فتصلهم لتزيدهم ثباتًا وصلابة وإصرارًا... كانت أمهاتهم العجائز في القرية يبعثن إلي، وأنا صغير لم أبلغ العاشرة من عمري، ويطلبن مني أن أكتب لهن رسائل إلى أبنائهن...رسائل ذات معاني ودلالات كثيرة وسامية.. لكن القاسم المشترك لها تعبر عنه جملة واحدة تنطق بها كل واحدة منهن " يا بني أدعو لك من أعماق قلبي أن يحميك الله وينصرك ويبيض وجهي ببطولاتك هناك ضد العدو المغتصب... أراني الله وجهك ورأسُك مرفوع..".. نعم إنهن أميات، لا يقرأن ولا يكتبن.. ولكنهن تعلمن ذلك بالفطرة من آبائهن وأجدادهن...
 كان الذي يُنتدب من الطلاب للحديث عن ذلك اليوم، يقف أمام زملائه ومعلميه، رافعًا رأسه، فرحًا بهذه المناسبة الجليلة، والحبيبة على قلب كل سوري مخلص...ويقول مخاطبًا شهداء الثورة السورية ضد المستعمر الفرنسي: " يا شهداءنا الأبرار، ويا أبطالنا الميامين، نحن أبناؤكم، وأحفادكم، نقول لكم، طيبوا أنفسًا، وقروا أعينًا، فجهادكم أثمر، وتضحياتكم أينعت، وإننا الآن نعيش في وطن ترابه طاهر، لا تدنسه قدم مغتصب دخيل... وسماؤه صافية نقية، تسطع فيها شمس الحرية؛ التي بذلتم دماءكم رخيصة ثمنًا لسطوعها... قرّوا أعينا، فنحن نتنسم شذى نيسان الاستقلال، ونيسان الحرية ونيسان الكرامة... طيبوا أنفسًا فإن أبناءكم مرابطون هناك على الثغور ليكملوا الرسالة، ويؤدوا ما حمّلتموهم من أمانة... وهم ماضون على العهد...
كان هذا حالنا معك يا يوم نيسان الكبير... كنا نكبر وأنت تكبر في نفوسنا وعيوننا... أرخ لك المؤرخون أنك كنت في السابع عشر من نيسان... لكنّ عيونًا حاسدة حاقدة، أكل البغض والكره قلوب أصحابها.. نظرت إلينا ونحن نكبر وأنت تكبر في قلوبنا ونفوسنا... نظرت إلينا وقالت: يكفيكم سبع عشرة سنة فرحًا وابتهاجًا بيوم نصركم، وكنتم طيلة هذه المدة تشحنونني غيظًا وحنقًا... تكفيكم تلك السنون العجاف التي تحرقت فيها على أيام خلت  وأنا أستمتع فيها بحضن أمي الرؤوم التي كنت أحس بدفء حنانها، وطيب أنفاسها... فحرمتموني من ذلك الحضن، ومن الاستمتاع بعبق تلك الأنفاس... آن الأوان لأذيقكم المر.. ولكن بطريقتي الخاصة، التي سيكون لسذاجتكم، وطيب قلوبكم دورٌ في نجاحها... وستعلمون قريبًا ما سأفعل..
بدأ ذلك بعد انقضاء سبعة عشر ربيعًا على يوم النصر والجلاء... إلى أن وصل بنا قطار المذلة والعذاب والهزائم إلى هذا اليوم... السابع عشر من نيسان من العام الخمسين لظهور تلك العيون الوقحة...في هذا اليوم كنتُ شيخًا... وأخذت أنظر إلى الأطفال، وما هم فاعلون في ذكراك يا يوم الجلاء... ويا لهول ما رأيت... رأيت عيونًا باكية، وقلوبًا شاكية، ونفوسًا واهية... في ذكراك سمعت أحد الأطفال وهو ينادي جده المجاهد ... يا جدي ..هل ترى ما حل بي.. هل ترى ما صنعت بي ذراريُّ أولئك الذين كنتم تشرمون آذانهم للدلالة على خيانتهم لكم، والتجسس عليكم...إنهم قتلوا أبي...وأيموا أمي.. وانتهكوا عرضي... وهدموا بيتي... أتدري لماذا؟ لأني أردت أن أحتفل حقيقة باليوم الذي صنعته لي..وأول مظاهر هذا الاحتفال أن أكون حرًا؛ أذكرك فتطرب أذناي لنشيدك وقد علمني إياه أبي الذي تعلمه منك:
يا ظلام السجن خيّم.... إننا نهوى الظلاما.
ليس بعد السجن إلا.....فجر مجد يتسامى...
يا جدي أتدري ماذا حل بأبنائك وأبناء الذين هم أمثالك.. لقد أخرجوا من ديارهم، وتشردوا في أصقاع الأرض.. لا ذنب لهم إلا أنك أنجبتهم، وأرضعتهم حب الوطن وحرية أبنائه..
أصبحت شيخًا وتذكرت أولئك الجنود البواسل أيام طفولتي وهم على ظهور دباباتهم رافعين علم الاستقلال، ورابضين على حدود الوطن الغالي وهم يهتفون: نحن حماة الديار...نحن أمل الوطن... نحن أبناء يوسف العظمة والشيخ أحمد إدريس والشيخ يوسف السعدون وعمر البيطار وغيرهم من الأشاوس...
أجل تذكرتهم أنا الشيخ الذي وهن جسمي، ورق عظمي،  وغارت عيناي.. إلا ذاكرتي فما زالت في عنفوان شبابها والحمد لله... تذكرتكم وأنا أنظر إلى جيل لبس لباسكم، وتلقب بألقابكم، ونطق بلغتكم..ولكن سماته  غريبة  عن سمات وطنكم... جيل ينفث من الحقد والكراهية ما لو حُمّلتْه جبال الأرض لشكت من شدة وطأته وعظيم ثقله... جيل ركب دبابات اشتريتُها بعرق جبيني، ولقمة أولادي، وصحة نفسي لتكون درعًا لي ولكل أبناء الوطن؛ وإذ بهذا الجيل يمتطيها ليدك بها المدن الغالية، والقرى الحالمة، ليقتل بها الأمل في النفوس قبل النفوس نفسها... ليقتلع بها الأحلام الوردية التي كنت أزرعها وأنميها وأنا شاب في عقول تلامذتي بأن يحبوا هذا الوطن، فهو يحبهم، وأن يعطوه لأنه أعطاهم وسيعطيهم، وأن يحرروه من كل تبعية لأنه سيكون لهم حصنًا من أي رق أو استعباد... وإذ بهم يرون خلاف ذلك كله... لا لشيء إلا لأن الأبناء الحقيقيين كانوا كما أراد لهم الوطن أمناء أوفياء بعيدين عن ثقافة الغدر والخيانة ...
أجل.. أنا شيخ حين وجدت أن نشيد حماة الديار الذي كنا نلهج به في مدارسنا ونحن أطفال قد تحول إلى نشيد آخر على ألسنة أطفالنا... نشيد مملوءٍ بشكاواهم وتباريحهم يبثونها وهم في ساحات التظاهر تحت القنص والقصف:
حماةَ الديَّـارِ علَيْــــكُمْ مَلامْ        إذا مَا رَضِيْتُمْ بِذُلِّ الكِــــــــــــــــرَامْ
نُفُوسُ الشعُوبِ غَــدَت تُسْتَضَام        عَلَيْـــهَا تَنَزَّلَ مَوْتٌ زُؤَامْ
فهَـلاّ حَمَيتُم رُبـُـوعَ الأنَــامْ          وهَـلاّ صَدَدْتُمْ ذِئابَ الطّغَامْ
======
ربُـوعُ الشآم غَدَتْ تُسْتَـبَــــــاحْ        وأضْحَتْ لأهْلِ الفَسَادِ المَراحْ
ويُسْمَـعُ في كلّ شِـْـبر نُـوَاح ْ        ويَعْلو على الثائرين النُّبَـاحْ
فكَمْ من دِمَاءٍ وكَـمْ مِنْ جِـرَاحْ        فَهَلاّ هَـرَعْتُم لكَبْحِ الْجُمَـاحْ
======
حُمَـاةَ الدّيـارِ ألا مِـن مُجيْب        لِشَيْخٍ عَجُوْزٍ وطِفْــلٍ أَرِيْبْ
يُريـْدانِ أمْنـًا وعَيْشــًا يَطِيْبْ      فَلا ذو شُجُونٍ ولا مِـنْ كَئيْبْ
ولا مُسْـتبدٌّ فيُقْصــي القَريْبْ        ويُـدْني إليْـهِ البَعِيْدَ الغَريْــــبْ
======
حمَـاةَ الدّيـَـارِ عليْـكُم سـَــــــــلامْ        إذا ما انْتَفَضْتُمْ لِعِـزِّ الشَّـآمْ
أمِيْطُوا عَنِ البَاغِـي ذاكَ اللثَـامْ        لتـُكْشَفَ سـوأتُهُ بالتّـمَـامْ
 وإلا ستبْقَـونَ رهْـنَ المَــلامْ      مِنَ النّفس أو مِنْ جُمُوعِ الأَنَامْ
ولكني أبصر أيضًا في هذا اليوم..وأنا أحيي ذكراك يا يوم الجلاء؛ أبصرُ عيونًا تقدح شررًا متوعدةً كل خائن غادر، وأبصر شبابًا يتدافعون إلى الموت لنيل الحرية والكرامة، وأبصر – فيما أبصر- عزائم ماضية، لا تلين وهي تصر على حياة عزيزة، أو موتة شريفة، وأبصر جماهير هادرة في كل ربوع الوطن تهتف بصوت واحد ((الموت ولا المذلة))، وتهتف ((بالملايين...لجنة رايحين)).. وأبصرت أن تماضر بنت عمرو ليست هي خنساء العروبة الوحيدة؛ بل إن سوريا تزخر بالخنساوات وهن يدفعن بأبنائهن إلى ساحات الكرامة... وأبصرت وأبصرت.... وقريبًا، يا يوم الجلاء، سنعود لنبدأ نحيي ذكراك من غير انقطاع نكد... فما أبصرته سيحوِّل، بإذن الله، السنين العجاف من سني ذكراك إلى سنين خصبة بالنماء والرخاء والمجد... وما ذلك على الله بعزيز.
الثلاثاء 25/جمادى الأولى/1433 الموافق لـ 17/نيسان/2012
محمد جمبل جانودي.
   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق