السبت، 3 مارس 2012

هل حقّا (( الثورة سبقت بعلمانيتها ومدنيتها...؟)!!


هل حقّا (( الثورة سبقت بعلمانيتها ومدنيتها...؟)!!
في برنامج ((حديث الثورة)) ليوم الجمعة الثاني من آذار لسنة 2012  الذي تقدّمه فضائية الجزيرة قال أحد المشاركين، وكانوا أربعة[1]، في معرض حديثه عن الثورة السورية.... والمعارضة: إن الثورة تقدمت كثيرًا عمن هم في الخارج بمدنيتها وعلمانيتها ففي الخارج نجد من يدعو إلى طائفية ومن يدعو إلى أسلمة الثورة ومن يدعو إلى ....
 ترددت كثيرًا في الرد على هذا القول... من منطلق أنه لا يستأهل الرد... فقد مل الناس من مثل هذا الكلام الذي يتضمن بنفسه الرد... ولكن سأسأل الأستاذ المعنيّ الذي أكن له الاحترام:
أين وجد السبقَ الذي يصف به الثورة بأنها تقدمت في علمانيتها عمن هم في الخارج...؟ هل وجده في انطلاقها من جميع مساجد سوريا بلا استثناء؟ هل وجده في الشعارات التي يُطلقها المتظاهرون وهم يحملون أرواحهم على أكفهم مثل ((بالملايين للجنة رايحين)) أو ((يا الله ما لنا غيرك)) أو (( لبيك...لبيك...لبيك يا الله)) أو في أسماء الجمع مثل ((الله معنا)) وجمعة (( الله أكبر على من طغى وتجبر)) أو جمعة (( لن نركع إلا لله)) ... أم إن علمانية الثوار تجلت عنده في إصرار الناس على من اختاره الله شهيدًا وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة على أن يقول ((لا إله إلا الله – محمد رسول الله) أم إنها تجلت فيما يظهر على ألسنة أمهات الشهداء وذويهم بأنهم احتسبوا ابنهم عند الله، وأنهم سعداء بذلك الاستشهاد؛ ما دام أن ذلك سيمضي بابنهم إلى الجنة ... أم بصلاة الجماعة التي يقيمها الثوار بين حين وآخر كلما سنحت لهم الفرصة لذلك...
في الحقيقة؛ لست أدري بمَ سيجيب الأستاذ على ذلك... ربما يُجيب بالعبارة التي اتفق عليها مع أصحابه الذين يرددون الكلمات نفسها.. (( الشعب السوري متدين ومسلم بالفطرة... وهذا أمر طبيعي..وأنه (أي الشعب) لا يقصد ما يزعمه "الإسلاميون" من أن الإسلام دين ودولة ويهتم بشؤون السياسة والحكم وغير ذلك..)) وكأنهم بهذه المقولة يتهمون الشعب السوري بالسذاجة وقلة الفهم...
 إن الذي يبذل روحه طمعًا في دخول الجنة تصديقًا بما جاء في القرآن الكريم (( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يُرزقون))  لا يمكن أن يثني عطفه معرضًا عن قول الله تعالى (( وأن احكم بينهم بما أنزل الله إليك ولا تتبع أهواءهم..)) ولا يمكن أن يعرض عن قوله تعالى (( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل))... ولا يُمكن أن يعرض عن قوله تعالى ((وأمرهم شورى بينهم)) ولا عن قوله تعالى (( وشاورهم في الأمر)) ولا عن كثير من الآيات الكريمة التي نزلت لتبين للناس نمط حياتهم، وطريقة معاشهم، وطبيعة العلاقة فيما بينهم أنفسهم، وكذلك العلاقة بين المحكوم الحاكم، وكذلك العلاقة بين الإنسان وربه... فهل يريد الأستاذ بقوله: إن الثوار سبقوا بعلمانيتهم ومدنيتهم، يعني أنهم يقولون للدين الذي أنزله الله تعالى وبيّنه رسوله صلى الله عليه وسلم: تنَحّ عن شؤون حياتنا، عن بيعنا وشرائنا، وأمور مصارفنا، وعقوباتنا وقضائنا، واقتصادنا، وحربنا وسلمنا، وإنما سنأخذ بك في أمور طلاقنا وزواجنا، وطهارة أبداننا، وثيابنا، وأدائنا لشعائرنا دون أن نستلهم منها ما ينفع في حياتنا وتسيير أمورنا... فنحن علمانيون؛ والعلمانية تقتضي ذلك التنحي...هل سمعهم يقولون ذلك أو يلمحون به ولو بالإشارة... ؟
لا يا أخانا الأستاذ... إن الثوار هم على درجة من الوعي والفهم بدينهم أكثر بكثير مما يظنه الآخرون بهم (بغض النظر عن كون هذا الظن عَمدًا أم سهوًا).. إن الثوار يعرفون حق المعرفة أن الإسلام نهى عن الظلم حين تعلموا في الحديث القدسي: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا...وهم يعرفون معنى ((يا عبادي)) أنها تشمل الناس جميعًا فلا يجوز ظلم أي من البشر بغض النظر عن عرقه أو جنسه أو لونه أو دينه...ومن ثم فإن سياستهم في الحكم ألا يُظلم أحد أيّا كان... والثوار يعرفون أنهم مأمورون أن يحكموا بين الناس ( وليس فقط بين المسلمين) بالعدل... وكم هي القصص التي تروي كيف أن القاضي المسلم حين كان يجلس بين يديه خصمان أحدهما مسلم والآخر غير مسلم أنه كان يسوي بينهما في كل شيء حتى بطريقة الجلوس، وطريقة مخاطبته لهما، وكثيرًا ما كان يحكم لغير المسلم على المسلم... وإن الثوار يعلمون من دينهم أن لغير المسلمين في الوطن الذي يعيشون فيه مع المسلمين حقوقًا لا تقل عن تلك التي للمسلمين في الأمور العامة... وأن الإسلام قد أوصى بالعناية بأولئك النفر من غير المسلمين الذين اعتكفوا في بِيَعِهِم وكنائسهم، وألا يُمنعوا من ذلك وأن تترك لهم حرية التعبد بما يرون...((لا إكراه في الدين)).. وإن الثوار يعلمون أن من دينهم كذلك عدمَ محاباة أحد بسبب عصبته أو قبيلته أو قوميته أو دينه (( لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها)).. وما أحسب أن قصة عمرو بن العاص مع القبطي حين اقتص الخليفة عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- للقبطي من ابن عمرو ببعيدة عن أذهانهم.. بل إنهم يعرفونها جيدًا، ويضعونها نبراسًا لهم ليطبقوها مستلهمين ذلك من تاريخ دينهم المشرق...ومن أفعال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين حملوا الدين بأمانة وصدق إلى الأجيال المتلاحقة؛ هم ومن سار على نهجهم... وغير ذلك كثير... وإن الثوار حين يعلمون ذلك ويسعون إلى تحويله إلى واقع معاش.. فهم يعملون ذلك بصفتهم ((مسلمين )) لا ((علمانيين))، وهم فخورون بذلك الاسم الذي سماهم به أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وإن من عدم الوفاء والبر لأي إنسان (أو مجموعة) أن نسميها بغير الاسم الذي هي ارتضته لنفسها...فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننادي الناس بأحب الأسماء إليهم... ... فكم نتجنى على هؤلاء الثوار حين نستغل عبارات تنطلق من أفواههم يستقون مفاهيمها من دينهم الحنيف مثل (( الكل متساوون في المواطنة)) و ((الشعب السوري واحد)) أو غير ذلك؛ لنلصق بهم زورًا وبهتانًا صفة لا يريدونها... وهم يعلمون أن إسلامهم هو الذي يأمرهم بالأخذ بمضمون تلك العبارات، وليس تلك الصفة... نعم ..هو الذي يأمرهم بالعدل والقسط والعفو والتسامح وعدم الانتقام، ولن ينسوا مقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم لصناديد قريش وطواغيتها الذين آذوه وسخروا منه، وأخرجوه من بلده وداره، وحاربوه وجهزوا الجيوش للقضاء عليه، وحاربوا أصحابه، ونكلوا بالمستضعفين منهم أيما تنكيل من أمثال بلال الحبشي، وعمار بن ياسر، وأمه سمية، وخبيب بن عدي و... أقول إن الثوار لن ينسوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم كلمته التي قالها لأولئك الطواغيت حين مكنه الله من رقابهم يوم فتح مكة : ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) ولم يعاملهم حتى بالمثل... إن الذي علم الثوار هذه الكلمة ليس مُنَظِّرًا علمانيًا أطلق درره هذه من وراء السهوب والبحار؛ وإنما هو نبيهم الذي أرسله الله رحمة للعالمين...
أمرٌ يحز في النفس أن نرى في شعبنا بعد كل هذه التضحيات التي قدمها، وهو مدفوعٌ بإيمانه العميق بربه وكتبه المقدسة وبأنبيائه، الذين جاؤوا بالخير والهدى للناس ... أقول إنه لأمر يحز بالنفس أن نرى ممن يسمون أنفسهم معارضين ويتصدون لإسقاط الظلم والفساد؛ أن يتهموا الثوار زورًا وبهتانًا بما يكرهون، ويُبعدون عنهم ما يحبون، وينادون به بأفعالهم قبل أقوالهم..ولكم نتمنى على هؤلاء الشركاء ألا يلجؤوا إلى جرح مشاعر الجماهير الغفيرة من أبناء الشعب السوري الثائر بمثل هذا الكلام... لأنهم في النهاية لا يجنون من وراء ذلك شيئًا مما يتوهمون جَنْيَهُ.  
قد تبدو العلمانية جميلة ولها بريق ولكن في نظر الذين لم يعرفوا الإسلام، أو أنهم تعرفوا عليه على غير صورته الشاملة والكاملة... ولكن حين يعرفونه على حقيقته سينكشف لهم زيف ما كان يبدو لهم...
إن الثورة ماضية وهي تستظل بقيم الحق والعدل التي حملها إلى الناس أنبياء الله موسى وعيسى وخُتمت بمحمد صلوات الله عليه وسلامه عليهم أجمعين... ولن يضرها صوت من هنا أو صوت من هناك... ماضيةٌ بقيمٍ تتقازم أمامها كل القيم الأرضية ولا تصل إلى سفوحها... وما أجمل أن يتجرد الناس، كل الناس، من خلفيات ذهنية لديهم، وأن يُقْبلوا على الإسلام الذي ليس لعرب ولا عجم ولا أبيض ولا أسود شرف في صياغته وإيجاده وإنما هو دين رب العالمين، رب الأحمر والأبيض والأسود والفقير والغني والقوي والضعيف.. أقول ما أجمل أن يلقي الناس جميع خلفياتهم الذهنية وراء ظهورهم وأن يُقبلوا على هذا الدين، ويتعرفوا عليه عن قرب من مصادره الحقة، وينابيعه الصافية... وعندئذٍ سيُسْتَمَعُ لكل كلمة يحكم بها أولئك مجردة عن أي هوى.. وبالتأكيد سنراهم يهتفون بملء حناجرهم: نريد الإسلام... وإن الخير الذي كنا نراه في العلمانية لا يعدو أن يكون غيضًا من فيض مما في الإسلام...
السبت 10/ربيع الآخر/1433 الموافق لت 3/آذار/2012
محمد جميل جانودي.   


[1] الثلاثة الباقون هم الأساتذة: عبد المجيد منجونة، وسمير تقي، وكمال اللبواني. أما مقدم البرنامج الإعلامي عبد الصمد ناصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق