الأحد، 11 مارس 2012

في ذكرى مجزرة جسر الشغور(1)


في ذكرى مجزرة جسر الشغور
العاشر من آذار لسنة 1980
لست أدري كيف أبدأ حديثي عنك، يا حبيبتي، يا جسر الشغور... بعد مرور اثنتين وثلاثين سنة، على ذلك العدوان الوحشي؛ وهو العدد نفسه من السنوات الذي أبعدته عنك ظُلمًا وعدوانًا...ذلك العدوان الذي تعرضتِ له يوم الاثنين، العاشر من آذار لسنة ثمانين وتسعمائة وألف... هل أتحدث عنكِ وأنت حالمة مستلقية على بساط أخضر  تَمدد على ضفتي العاصي...تتنسمين هواءه العليل، وتنشقين عطر رياحين الأزاهير المنثورة على ذلك البساط فجعلته يبدو كأنه قطعة من الجنة... هل أتحدث عن وداعة أهلك، وسماحة نفوسهم، وأصالة منبتهم... عن كرمهم الفطري، ونخوتهم العظيمة، وشهامتهم المشهودة، وشجاعتهم الباسلة، ووفائهم المرموق... هل أتحدث عن غيرتك الشديدة، وحمِيَّتك العتيدة...
سأتحدث عن كل ذلك... لأن ما حصل لك في ذلك اليوم هو خير شاهد عليه.
في ذلك اليوم كان مرجل يغلي بين جنبيك؛ وأنت تنظرين إلى أخوات لك في سوريا، تُسام سوء العذاب والقهر... انتُهكت حرماتُها، وامتُهنت كرامتُها، ونيشت حرائُرها، وذُل رجالُها... كنت تختلسين النظر إليها خوفًا من حراب الغدر، ولصوص الفجر، تنظرين إليها وقد استبسل أبطالُها غضبًا لما حلَّ بها... ولو أن ما صدر عن أولئك الأبطال كان في أي بقعة أخرى من العالم؛ لزينت صدورهم بأوسمة على تلك البطولات، ولسُطرت ذكراهم  في سجل الخالدين والخالدات... ولكن شيئًا من هذا لم يحصل؛ بل حصل نقيضه تمامًا... ذلك لأن الذين قدّر الله أن تكوني، أنت وأخواتك، في قبضتهم، لم يكونوا يمتون إلى البشرية بنسب، ولا إلى الإنسانية بحسب... وما يربطهم بهما سوى صور آدمية تنطوي على قلوب قذِرة؛ طَمَست قذارتُها كل هوية..
أجل في ذلك اليوم كان مرجل يغلي بين جنبيك، يا جسر الشغور، ويا جبلاً تحط على ذراه النسور... وكانت زفراتٌ من الأسى والألم والحزن تنبعث من أعماق صدرك... وشرر من نار يتطاير من محاجر أحداقك... كان الناس يتهامسون فيما بينهم متسائلين: إلى متى نصبر على ما يحل بأهلينا...؟ وحتام ننظر إلى المنايا تُحمل بأبشع صورها إلى كرام الناس في ربوع سوريا الجريحة... كانوا يعلمون أن كل هذا الخسف والجور... كان بسبب الوقوف في وجه لص سطا على البلاد، وأذل العباد... بسبب كذاب أشر، تمسكن حتى تمكن!! وما كان له ذلك لولا ما تنطوي عليه نفوس الناس من طيبة ونقاء، وأصالةٍ وصفاء....كان بسبب ثلّة من أحرار النفوس، وقفوا في المقدمة، رافعي الرؤوس، وصرخوا بملء أفواههم: لا للطغيان... لا للبهتان... لا لتحكم رعديد جبان...
كان هذا كله يختلج بين جوانحك في ذلك اليوم يا موئل الأخيار، ومنبت الأحرار، ومعقل الثوّار، وكانت عيونُك الساهرةُ ترقبه، وآذانك الصاغية تسمعه، وقلبك الكبير يتفطر له..وصبرت؛ ونفد لديك الصبر...بعد أن طفح عندهم الكيل... فانتفضتِ انتفاضةً مضرية تعبرين بها عن غضبك مما يحدث، وعن نصرتك لأخواتك المبتليات... فخرج رجالك الأشاوس، وجميع طلبة المدارس، في تظاهرة عصماء، يهتف رجالها؛ مستنكرين على الظالم فعلته، وعلى اللص سرقته، وعلى الجبان غدرته... وطافت بشوارعك الحزينة، مرسلة برسالة جلية، وإشارة للباغي قوية... بأن للصبر حدًا ينتهي عنده، وأن على العاقل أن يحسب ألف حساب لما بعده...
فلم يرُقْ ذلك للطاغوت وأعوانه، فدس أزلامه ليخربوا، وأذنابه لينهبوا، ليتخذ من ذلك ذريعةً يتهم بها الأطهار، ويلوّث سمعة الأبرار، ويصب عليهم جام غضبه من قتل ودمار... وهذا ما قد وقع وصار!!!
في صبيحة اليوم التالي كانت أكثر من خمس وعشرين طائرة حوامة تغطي سماء البلدة الآمنة، إلى أن حطت في ساحة معمل السكر، وأفرغت حمولتَها من أسلحة وعتاد وذخيرة، ونزل منها جنود ومرتزقة كثيرة، ثم توجه أكابر مجرميهم إلى بناء البريد فاحتلوه، وأبعدوا عنه كل من له عمل فيه وأقصوه... أقاموا فيه "محكمة ميدانية" والأصح أن يطلق عليها ((مجزرة وحشية)).. ثمَّ انتشر الأزلام في شوارع البلدة كالأفاعي المثارة، تنفث سمومها في كل حي وحارة، وتبعث بفحيحها في كل اتجاه، وتلدغ من وجدت في طريقها ولو كان يحثُّ الخطا إلى مأواه، حتى إذا ما أسدل الليل أستاره، وألبس الكونَ رداءه وإزاره، وخيّم عليه بهدوئه وسكونه، استقر الناس في بيوتهم، ظنًا منهم أنهم ابتعدوا عن الصل وعيونه... حين ذاك أظهر حقده الدفين، وأسفر عن وجهه المشين... فبعث جلاوزته إلى البيوت فاقتحموها، وإلى الحرمات فانتهكوها...وساقوا الشباب إلى محكمتهم المزعومة، ولجنتهم المشؤومة... فما يمضي على الداخل إليها سوى ثوان معدودة، حتى يُخرج من باب آخر ليظهرَ على عتبته جثةً ممدودة... واستمر الحال على ذلك طيلة الليل الحزين، وتجاوز عددُ من قُتلوا في تلك المجزرة الثمانين ... جلهم من الطلاب اليافعين، وبعضهم من شرفاء المدينة المرموقين... وإن أسماءهم معروفة، وأحوالهم بكل خير موصوفة... ولم يكتف الأوغاد بذلك بل اقتادوا قومًا آخرين إلى مراكز الرعب في إدلب، مقيدي الأيدي، ومعصوبي الأعين... فلاقوا هناك ما لا يتصوره عقل، ولم يُسمع به في جبل أو واد أو سهل... وقد روى شهود أخبارًا موثقة أكيدة، عن جرائم في نوعها فريدة،  عن دفْن أشخاص في حفرة كانت لهم مقبرة جماعية، وبعضهم أحياء كانت أجسامهم في تلك الحفرة مرمية.....
ولبست جسرُ الشغور منذ ذلك اليوم ثوبَ الحداد... وحكى الأجداد القصة للأبناء والأحفاد... فلم تندرس بمرور الزمان، وما أتى عليها ضياع أو نسيان... حتى بزغت شمس الخامس عشر من آذار، بعد إحدى وثلاثين سنة على ذلك الفتك والدمار... فهبت سوريا من أقصاها إلى أقصاها، بشيبها وشبابها، ورجالها ونسائها، وانتفضت  لتقول مرة أخرى للصائل ألف لا... ولكن هذه المرة كانت أشد وأقوى، وأكثر مضاء وأعتى... وعلا صوت يهدر من جسر الشغور يقول: أنا لها... أنا لها... ومد الأبطال أيديَهم إلى الراية التي سلمهم إليها الآباء والأجداد فرفعوها عاليًا وهم يهتفون: الله أكبر ... الله أكبر.... حي على الجهاد... حي على الجهاد...
السبت 18/ربيع الآخر/1433 الموافق لـ 10/آذار/2012
 محمد جميل جانودي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق