الجمعة، 31 ديسمبر 2010

الخاطرة السادسة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم
روزنامة جدي
في أغلب الأحيان كان جدي يتولى شؤون الأذان والإقامة وخطبة الجمعة في القرية، ولذلك كانت يحرص على أن يكون دقيقًا في ضبط مواقيت تلك الشعائر التعبدية... ومن أجل ذلك كان في نظره أن "التقويم الهاشمي" في ذلك الوقت هو الذي يحل له مشكلة ضبط الوقت وفقه، وكان يُطلق على التقويم "روزناما"، كان يأتي بنسختين جداريتين، من ذلك التقويم، إحداهما للمسجد، والثانية للمنزل.. لكن الذي لفت انتباهي في روزنامة المنزل، أنه كان قد ثبّت مسمارًا آخر في الجدار غير مسمار تعليقها إلى جوارها، وكلّما انقضى يوم؛ وكان ذلك الانقضاء برأيه يتم بعد صلاة العشاء؛ كان يقوم بخلع ورقة ذلك اليوم ويضعها في موضعها في المسمار الثاني لكن ظهرها إلى الخارج.. فسألته عن سبب ذلك فقال: حتى يقرأ كل زائر لي ما كُتب عليها من أحاديث أو شعر أو حكم.. ثم قال: هيا قم واقرأ ما كُتب على ورقة أمس وأسمعني، فأطعته واقتربت من الورقة المعلقة وقرأت بصوت مرتفع:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلًم لرجل وهو يعظه : "اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك".
وحين فرغت من القراءة قال: أحسنت، يا بني أوصيك بأن تغتنم تَوَفُّرَ هذه النعم الخمسة فيك قبل أن يأتي وقت تريد أن تفعل شيئًا ولا تقدر عليه، وسبب عجزك هذا هو:
 شيخوخةٌ وهرمٌ يرافقهما ضعفٌ جسدي أوعقلي أو كلاهما معًا، أو مرضٌ يهد البدن فيحول بين صاحبه وبين كل ما يرغب من عمل.. أو فقرٌ مر يشغلك البحث عن لقمة العيش عن الإتيان بكثير من الفضائل، أو عملٌ متواصل لا تجد بسببه ساعة تعمل فيها ما تتوق إليه؛ من تحصيل علم، أو صلة رحم، أو زيارة صديق.. وآخرها اغتنم الحياة قبل الموت.. الموت الذي كثيرًا ما أوقف أناسًا عن أعمالهم، وتعطّلت مشاريع فلم تكتمل.. وتلاشت آمال فلم تتحقق..
فأُعجبت بهذه الطريقة الخفيفة واللطيفة التي لا تكلف مالاً ولا تتطلب جهدًا.. وبدا هذا الإعجاب على وجهي فقال: وفائدة أخرى يا بني أجنيها من تعليق هذه الأوراق، وحين سألته عنها قال: أنت تعلم أن هذه الأوراق تتضمن آياتٍ قرآنيةً، وآحاديثَ نبوية، وحكَمًا لعلماء أفاضل، وقد كتبت باللغة العربية فبهذا العمل تُحفظ من الامتهان والبعثرة هنا وهناك.. فقلت له هذا صحيح.. ولكن لِمَ لمْ تفعل ذلك مع روزنامة المسجد فقال: المصلون لا يُبقون الأوراق، فهم ينزعونها قبل مضي اليوم.. فقلت له: نبِّههم إلى ألا ينزعوا الأوراق وأن يعلقوها في مسمار مماثل لهذا.. فقال: سأفعل وأرجو أن يطيعوا... وبعد أيام كانت أوراق روزنامة المسجد التي انصرمت أيامها معلقة على الجدار وبنفس الطريق, ولا يدعها أحد إلا ويقرؤها..
ورحم الله من قال:
إذا هَـبَّـتْ رياحُـك فاغتنمْها           سيتْـتـلـو كلَّ خافقــــةٍ سكونُ
ولا تزهَدْ عن الإحسان فيها          فما تدري السكونُ متى يكون
وإن دَرَّتْ نيَـاقُـك فاحْتلبْها            فما تدري الفصيلُ لمن يكون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق