الخميس، 9 ديسمبر 2010

الخاطرة الرابعة عشرة


بسم الله الرحمن الرحيم
أنا وجدي...
أذكر أنني كنت كثيرًا ما أصحب جدي الذي جاوز عمره الثمانين سنة؛ إلى مزرعته وأنا صغير لم أبلغ العاشرة بعد.... كنت أراه يعمل بجد ونشاط، يعمد إلى النباتات الطفيلية فينظف الأرض منها، ثم يجمعها في كومة حتى يحرقها إذا ما يبست.. ويتسلق الأشجار فيقلمها وينقيها من كل غصن لم ينم جيّدًا، أو أوشك أن ييبس.. فتبدو الشجرة بعد تقليمه متعة للناظرين من حسن تنسيقها وخلوها من كل ما يعيبها...وفي يوم رأيته يتجه نحو شجرة حور باسقة وأخذ يتسلقها، وهي التي يعجز عن تسلقها الشباب.. ويفصل عنها الأغصان الفرعية التي نمت على جوانبها حتى يُتاح لها أن ترتفع وتعلو في الجو ليتّخذ الناسُ منها ومن أمثالها جسورًا خشبية يشيدون أسقف الغرف والحجرات..
كنت أنعم النظر إليه مندهشًا مما أرى فيه من نشاط وحيوية وشغف في العمل..ومن مخاطرة بحياته وهو في هذا العمر.. رآني على حالتي تلك، فقعد على الأرض، وناداني قائلاً: تعال يا بني وأحضر معك جرّة الماء فقد عطشت.. وحين اقتربت منه وناولته الجرة أخذها مني برفق وهو يبتسم، وقال: بسم الله..ورشف منها قليلاً من الماء، ثم وضعها جانبًا وهو يقول "الحمد لله" ثم نظر إليّ مليّا وسألني:
-        أتعجب مما تراني أعمله؟
-        أي والله يا جدي..
-        إذن اسمع هذه القصة يا ولدي!!
-        تفضل يا جدي..
-        حين كنت جنديًا في الجيش العثماني في حرب ((سفر بر)) وهي الحرب العالمية الأولى، حدث لي أن رأيت فلاحًا متقدمًا في العمر يحرث أرضًا له، وهي أرض منبسطة ترقد بين جبلين، وكان على أحد الجبلين جند لأحد الفريقين المتحاربين، وعلى الجبل الثاني جند الفريق الآخر.. وكانت الطّواب (المدافع) من كلا الفريقين تصوب قذائفها للفريق الآخر، وهديرها يملأ جنبات ذلك الوادي، ورأيت تلك القذائف تمر فوق ذاك الفلاح ذهابًا وإيابًا.. فقلت له: أتعمل يا عمّ وهذه القذائف تمر فوقك ؟ ألا تخشى أن تصيبك إحداها؟ فقال لي: الحياة يجب أن تستمر يا بني، فلو أنني توقفت عن الحراثة وغيري توقف عن النجارة وآخر توقف عن الحصاد، و... فكيف سيعيش الناس؟ لقد تعودنا على ذلك... ثم إنني، كما ترى، رجل عجوز لا أستطيع أن أحارب بالسلاح فعملي هذا هو مشاركة مني في الحرب.. فقلت له: ولكن ألا ترى أن هذه الغراس ما زالت صغيرة وأنت كما أراك قد كبرت سنك؛ بارك الله فيك، فماذا تنتظر؟ فأجابني: يا بني؛ غرسوا فأكلنا ونغرس لتأكلوا...ثم نظر جدي إلي وقال: يا بني لم تغب قصة هذا الرجل عن ذاكرتي.. وكلما تقدّم بي العمر تذكرتها جيدًا، وهي تحفزني على العمل حتى تأكل أنت وأمثالك يا ولدي.. فالأحفاد إذا عاشوا وصلحوا يكونون استمررًا لحياة الأجداد.. فلا تجعلوا حياتنا قصيرة في هذه الدنيا بألا تكونوا مثل ذلك الفلاح البسيط..
ومرت السنون، وتوفي جدي رحمه الله تعالى عن عُمر قارب المئة عام.. واشتد عودي، وبينما كنت أقرأ في كتاب "قبسات من الرسول" مرّ معي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".. فما وجدت أكثر من قصة جدي عونًا على فهم هذا الحديث..   
الجمعة 4/محرم/1432   
        
إذا ما شئتَ للْعُمُـرِ امتـــدادا       وتلقـى الله فـــي قلــبٍ سليـــم
فقـــدّم للأنــام فعـــالَ خيْــرٍ       وطِــبْ نفْــسًا بتفْريجِ الهـمومِ
ولا تُمْسِـك إذا أيقنْـت يَــوْمًا       بأنّــك لَــنْ تفيْـد منَ الْكُـــروم
فنفْع العالمين يفــوق فضـلاً       لدى الرّحمن من رعي النّجوم
وكنْ لهـمُ كغيْـثٍ جاء أرْضـًا      بُعيْــدَ الجَـدْب بالخَيْــر العميْـمِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق