الجمعة، 24 ديسمبر 2010

الخاطرة الخامسة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم
أنا وجدي (2)
كان جدي بعد أن تقدم به العُمُر، يحبُّ أن يأتيَهُ الأحفَاد ليتسلى معهم، ويتخلصَ من داء السأَمِ والملل الذي كثيرًا ما يعاني منه كبار السنّ..
وفي أحدِ الأيام كنت وحدي إلى جواره فقال لي: أتدري يا بني أنني رُقيت في الجيش العثماني إلى رتبة "عريف"؟ فقلت له: وما الوجه الغريب في ذلك؟ قال: لا غرابة البتة؛ إنما أردت أن أبيّن لك كيف تمَّتْ هذه التّرقية...
سألتُه: كيف؟ فقال: لقد كانت العادة في الجيش العثماني أنّه إذا وجد عدة أشخاص يملكون الأهليّة نفسها، من لياقة بدنية، وقدرات عقلية، وإتقان للتدريبات العسكرية ويُطلبُ أن يُختار منهم قائدٌ عليهم؛ فإن المسؤولين ينظرون ما مع هؤلاء من القرآن الكريم..ويتم اختيار الذي عنده قرآنٌ أكثر، أو تلاوته أفضل، وعلى الأقل كانوا يختارون من هو أكثرُ إتقانًا لقراءة سورة الفاتحة.. فأعجبني حديث جدي على كيفية اختيار القائد.. ولم يكتف بذلك بل قال لي: كانت كل مجموعة من الجند مزودة بآلة كنا نطلق عليها "قِبلة ناما" وحين أخذ يصفها لي عرفت أنه يعني بها "البوصلة" وذلك لتحديد اتجاه القبلة وقت الصلاة.. وكنا نصلي جماعة، ويتقدم الجنود إمامٌ يصحبهم أينما ذهبوا، وحيثما اتجهوا.. وكان على قدر من العلم الذي يلزم لمثل الوضع الذي يشغله. وكان هذا الإمام يتلقى كل أشكال الاحترام والتقدير....وكان يحرصُ على ألا يعسكر الجند في أرض تتضرر بوجودهم عليها، فيوصي الضباط بأن يتحروا الأرض البور التي لا زراعة فيها وإنزال عسكرهم فيها... إلا في الحالات النادرة التي لا بد منها..
وأضاف جدي يقول: كانت وجبة الغداء هي الوجبة الأساس في اليوم، وتصبح وجبة الإفطار هي الوجبة الأساس في رمضان المبارك.. كما أنه في شهر رمضان كان يحرص القادة على إيقاظ الجند على وجبة السّحور..وكانوا يحرصون على ألا يفوتوا صلاة التراويح إلا لسبب قاهر.. كان كل ذلك يتم بما لا يتعارض مع ظروف الحرب.....
وقال جدي: لقد كانت المعيشة غالية في ذلك الوقت بسبب الحروب، إلا أن أقواتنا في الجيش كانت تصل بانتظام، أما معظم الناس فكانوا لا يجدون قوت يومهم إلا بشق الأنفس، وكانت أفضل أكلة عندهم هي شيء من الدقيق يضيفون إليه الماء، ويضعونه في قِدْرٍ على النار ليصنعوا منه "شوربة" يطلقون عليها (حريرة الغلاء)..
والآن أتذكر ذلك كله ويتعثر لساني حين يريد الكلام؛ بعد أن جلْتُ بذاكرتي في بعض البلاد العربية والإسلامية لأصلَ إلى ما يُخجل من حيث إمكانيةُ إقامة الصلوات في ثكنات جنودها، ومواطن وجود الجيش، وإن تم ذلك فعلى استحياء وبصورة فردية...أما عن معايير الترقيات ففي النفس منها آهات وأنّات..
وبسرعة رنَّت أبيات أحمد شوقي، رحمه الله،  في أُذني:
 مررْتُ بالمسجدِ المحْزونِ أسألُه         هلْ في المُصلّى أو المحْرابِ مروانُ
  تغيّر المسجدُ المحزونُ واختلفتْ         عَـــلى المنــابر أحْـــرارٌ وعُبـْـــدان‘
  فَـَــــلا الأَذانُ أذانٌ في مَنَـــارتِـهِ          إذا تعَــــــــالــــــــى ولا الآذانُ آذانُ
                    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الجمعة في 18/محرم/ 1432هـ.
                                                                محمد جميل جانودي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق