الخميس، 1 يناير 2015

أتاني هاتفٌ بعد الغروب...

أتاني هاتفٌ بعدَ الغروبِ
خمسون عامًا أو تزيد قضيتُها معه... حين التقيت به على مقاعد الدراسة الجامعية، في بهو كليةِ العلوم وصالاتها ومدارجها، أنتقل في كثير من الأحيان، بصحبته من مدرج إلى آخر، ومن صالة إلى نظيرتها، كان يُشعرني بصدق الأخوة، وعظمة الانتماء....وكان معنا كوكبة من الأخلاء الأصفياء... منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر... وها هو الأخ الكريم أنور البويضاني ينضم إلى قافلة من قضوا نحبهم عصر يوم الأحد السادس من شهر ربيع الأول، شهر اليمن والخير والبركة، لعام ألف وأربع مئة وستة وثلاثين، بعد رضًى قلبيّ بقضاء الله وقدره، وصبره على مرض ابْتُلي به منذ أكثر من سبع سنوات مضت... سنواتٍ يجزم من رآه خلالها بأنه حين يجلس معه، يكون في مدرسة من نوع خاص... مدرسة تعلم الصبر والحلم، والثبات على المبدأ، فما شغلته آلامه المبرحة، ومعاناته الطويلة عن المعايشة اليومية لهموم الأمة، والتفكير في واقعها، يفرح لخير أصابها، ويحزن لمصاب ألم بها... كيف لا وهو، في الأصل، قد يسره الله لما خُلق له، بأن يكون معلمًا للخير، وقدوة لطلابه فيه... وبقي على ذلك زهاء أربعين سنة، يمنح ويعطي، يُعلم بسلوكه قبل كلمته، ولهذا السبب بالذات لم يُعجب الطغاة في سورية الحبيبة، ففصلوه من عمله، وأبعدوه عن أبنائه، ولكن ذلك لم يفتّ في عَضده، بل تابع أداء رسالته في مدن أخرى من ربوع الوطن الكبير، في صامتة والبكيرية، وبعدهما في الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية، وبقي كذلك، حتى بعد نزول المرض في بدنه، لكن روحه بقيت صافية شفافة، لم يكن للداء أي أثر فيها أو عليها...

ضمّ ثرى مقبرة النسيم في الرياض جسده الطاهر قُبيل غروب يوم الإثنين السابع من ربيع الأول لسنة 1436هـ. 
الحديث عن صديق العمر، وأخ العقيدة، يطول، فعسى أن يكون ذلك في قابل الأيام إن شاء الله تعالى...أما الآن فلنبق مع قصيدة رثاء له، رحمه الله:      
رثاء الأستاذ أنور بويضاني (رحمه الله)
أتاني هاتـــــف بعد الغـــــروب****فصار القلب مُضطربَ الوجيبِ
نعى روحي لروحي في خشوعٍ****وقال اصبــرْ على مرّ الخطوبِ
هي الدنْـــــيا كما كانتْ وتبْــقى****مباعِـــــدةَ الحبيبِ عن الحبيــبِ
كما يقضي الإلـــه فليس فيــــما**** يُقــدّرُ مِـــن نجـــاةٍ أو هــروبِ
فإمّا مُؤمـــــن يرضــى قضـــاهُ**** فينعَــــم بالرضى عند الكروبِ
وإمّا ساخِــــطٌ يحْــــــيا جزوعًا****ويبْـــــقى تائِــــهًا بيْــن الدروبِ
أيَـــــا آل البويضـــانيّ صبـــرًا****على فقـــــدان ليثِـــكمُ النّجيـــبِ
عميـــدًا فيكمُ قــــد عاش دهـرًا****فأصـبـــحَ كالمعــــلّم والطبيـــبِ
كبـــدْرٍ قَــــد أحاطتْــه نجــــومٌ****فبــدّدَ ظـلْمــةَ اللّيـــــلِ الرَّهيـــبِ
نعَــوْكَ أخـي إليّ وكنتُ أخشى**** سماعَ النّعي في الوقت العصيبِ
نعَــوْكَ أبَـــــا محمّـــدٍ المُعنّـــى**** وساقي القــوم من كأس رطيبِ
نعــوك أُخـــيَّ أنــورَ بعدَ صبرٍ****على البلوى، على الدّاء العجيبِ
عهدتُــــك يا أخي مذ كنتَ جلْدًا**** تقُـولُ الحقّ في وجـــه الكذوبِ
فلا تخْــــشى مطاردةً وسجْــــنًا****ولا نفْـــــيًا إلى بـــلدٍ غَـــريْـــبِ
نــــــديّ الكفّ تبْـذل في سخاء**** عطــاؤك للبـــــعيد وللقريْـــــبِ
لقد آثَــــرْتَ أن تحْيَــــــا غريبًا**** عــــلى أن تُستَـــذلّ من الرّبيبِ
عفيْـــــفًا كنتَ، لم تخدعْك دنيا****بِـمــالٍ أو بــجـــــاهٍ أو لًعُـــــوبِ
وكنْـــتَ معلّمًــا تبني شبــــــابًا**** ليوثًا في الوغى أو في الحروبِ
رحيقُـــــك كان سُقيـــاهُم بيوم**** شـــديــــد الحرّ مشتــــــد اللهيبِ
فلا عجـــبًا إذا ذرفُـــوا دمُوعًا****عليْـــــك أُخيَّ بالصــوتِ النحيبِ
ولا عجبًا إذا زفَـــرتْ صدورٌ****لمن عرفُــــوك بالشهْــــمِ الأريبِ
ألا يا ربــــــنا فارحَـــم أخــانا****فَــــقــــد لبّـــــاك في قلبٍ منــيبِ
الإثنين 7/ربيع الأول/ 1436 الموافق 30/كانون الأول/2014

   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق