السبت، 5 فبراير 2011

الخاطرة العشرون

بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ حمزة زعرور (رحمه الله)
كان بودي أن أؤجل الكتابة أو الحديث عنه إلى وقت أكونُ فيه أكثر استعدادًا من جميع النواحي لأوفيه بعض حقه.. ولكن ما جرى في تونس وفي مصر من أحداث غريبة ومثيرة وتسير من أجل التغيير ذكّرني بإلحاح بهذا الشيخ الفاضل.
 إن التغيير سنة ماضية في بني البشر.. وكذلك التجديد، ولكليهما سبل متعددة إلا أن أجداها هو ما كان أنفعها للبشر، وأبعدها عن الإضرار بهم، أو بما يخصهم.. وهو الطريق الذي سلكه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم كانوا إما مغيرين أو مجددين أو كلاهما معًا .. وطريقهم يتمثل في الدعوة لما يريدون أن يتغير حالُ الناس إليه، بالحكمة، والصبر على الأذى، والدفع بالتي هي أحسن، والفهم لأحداث التاريخ وتدبرها، وأخذ العظة والعبرة منها.. كل ذلك يجب أن يكون سمات أصيلة لأي دعوة للتغيير..  وبقدر ما تقترب ممارسات من يأخذون على عاتقهم التغيير من تلك السمات يكون التغيير أقرب متناولاً ونجاحًا.
أقول إن ذلك ذكّرني بالشيخِ حمزة زعرور (أبو بلال)، ذلك المجاهد المجهول..تعرّفت عليه عام 1964م وهو العام الذي انتسبت فيه إلى كلية العلوم في جامعة دمشق، فقد كان يعلمني مع مجموعة من الشباب أحكام التجويد، نلتقي معه بعد صلاة الفجر في غرفة عُلْوية في جامع "كفر سوسة" الكبير..وكان قد جاوز الستين عامًا.. لكن روح الشباب وحيويته ونضارته تسري في عروقه.. ومن خلال قراءة القرآن كان يركّز على بعض النقاط الهامة  التي تشير إليها الآيات المتلوة.. ولاسيما تلك التي لها علاقة بالتربية والدعوة والتغيير... وهو يتعمد ذلك لما يرى عند بعضنا، وكلنا شباب، من اندفاع وتسرع...
كان - رحمه الله - يركز على عدم مواجهة الناس أيا كان موقعهم في المجتمع بالعنف والفظاظة كيلا ينفضوا.. وكيلا تحصل عندهم ردود أفعال تنعكس على الجميع بما لا يسر.. ويوصي بالإحسان والصبر والتحمل وعدم اليأس، والاستمرار فيما ندعو إليه ما دام هو الحق.. وكان يأتي بأمثلة على ما يقول.. فمرّة ضرب لنا مثلاً قصة أخت موسى - عليه السلام - في الحكمة والصبر، والتروي، والذكاء، حين ذهبت في أثر أخيها الرضيع، موسى، مستغلة مشكلة، حيّرت فرعون وأهله، وهي إرضاع أخيها موسى، واهتمام فرعون وحاشيته بهذا الأمر.. كان الشيخ حمزة يقول: لو لم تكن هذه الفتاة على قدر كبير من الصبر والحكمة والذكاء، وسرعة البديهة في التعامل مع الحدث.. لما تمكنت من أن تعبر الحواجز والحرس والأبواب لتصل إلى بيت فرعون، وتبلغهم بما يريدونه هم، وفي نفس الوقت لتصل إلى هدفها الذي خاطرت من أجله..في إعادة أخيها إلى حضن أمه..
وكان يقول أيضًا: لو قُدر لك أن تُسجن في زنزانة منفردة، فلا تيأس، ولتكن عندك إرادة قوية بأن الفرج آت، والخروج محقق.. ولو لم يُتح لك إلا إبرة فاستخدمها في نحت جدار الزنزانة بهدوء، وليكن عندك أمل في النجاح.. وإذا كان لديك فأس فلا تستخدمها؛ لأنه ليس من الحكمة استخدامها، لأنها أولاً تضر في هدم الجدار بأكثر من الذي تحتاج إليه، وثانيًا تحدِثُ بلبلة وفوضى، وبذلك تفوت الفرصة عليك في الخلاص...
وكان يقول: لو أنك تريد الحصول على عشرة مطالب، وهي في يد خصمك.. فاختر أيها أهم وأنفع لك، ثم احصل عليه حتى لو تنازلت عن التسعة الأخرى التي هي ليست – مجتمعة - بأهمية العاشر الذي صار في حوزتك...
وكان يقول.. لقد أخذ موسى بني إسرائيل معه مغادرًا بهم مصر.. بالرغم من رفض فرعون لذلك.. خرج موسى معهم مسالمًا لا يملك عتاد فرعون وجنده... لكنه قام بما يعلم أنه يجب أن يقوم به دون أن يكون مكترثًا لغضب فرعون حين يُعصى أمره ولا تنفذ إرادته... فالقيام بما هو حق من غير أن يجلب ذاك القيام ضررًا أو أذًى إلا ما يترتب عن تصرفات شاذة من فرعون لقاء ذلك.. هذا القيام واجب.. والله يتولى الحفظ والفرج والنصر.. وخاف بنو إسرائيل، وقالوا لموسى حين لحق بهم فرعون " إنا لَمدركون" فطمأنهم موسى عليه السلام قائلاً: " كلا، إن معي ربي سيهدين".. فالمواجهة في هذا الظرف خاسرة..
فالصبرَ الصبرَ... والعلمَ العلمَ... والتفقّهَ التفقهَ بالواقع.. وبغير ذلك لا جدْوى...
إذا خرجنا من المسجد وتفرقنا، كان بيته على طريق بيتي، وحين نصل إلى أمام باب منزله، يُمسك بيدي ويدعوني لتناول طعام الفطور عنده، فإن اعتذرت قال لي مداعبًا ببسمته المعهودة لدى كل من عرفه "عمّي محمد، لا يخطر ببالك أنني أُحرج أو يُحرَجُ أي من أفراد أسرتي.. إنني أسير على مبدأ ((نحن لا نتكلف المفقود، ولا نبخل بالموجود)) ثم يشد يدي فلا أجد نفسي إلا وأنا في بيته..
له أربعة أبناء ذكور، وعنده بنات أيضًا.. أسماء الذكور: بلال، وصهيب، وسلمان ، وقسورة.. وكان يقول: أردت أن أُبْعدَ الإحساس بالعصبية العرقية أو القومية.. فأنا جمعت في بيتي الرموز الرومية والفارسية والحبشية والعربية تحت ظل الإسلام وسألته مرة: أين الرمز العربي؟ فمد يده باتجاه ابنه قسورة وقال: هذا..
والشيخ حمزة زعرور من بلدة " القدموس" بالقرب من "مصياف" وأظنه كان حنفيًا، ولكن لديه من علوم الشافعية الكثير.. يأكل من كد يده وعرق جبينه، فقد كان عنده محل لبيع راويات الماء المصنوعة من "الكاوتشوك" وكذلك الدِلاء التي يُنزح بها الماء من البئر، وغير ذلك من الأوعية المطاطية. ومحله هذا كان في السنجقدار، وأحيانًا كنت أمر عليه فأجد بيديه المخرز والإبرة وهو يعمل بجد ونشاط.. والذي يصافحه يحس بخشونة واضحة في يديه من أثر العمل بتلك المهنة....
رحم الله الشيخ حمزة، ونفعنا بعلمه الذي علّمنا إياه..
الجمعة 1/ربيع الأول/ 1432.
                                            محمد جميل جانودي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق